لبنان بين عنفين

لبنان بين عنفين

تعاني السلطة الحاكمة في لبنان من داء الإنكار، وترفض التعامل مع التشخيص الذي قيّم حالة الجمهورية في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، ومنذ ذلك التاريخ وإلى الآن تصرُّ على نكران العوارض المَرضية في جسد الدولة، ولجأت إلى التواطؤ فيما بينها لعلها تخرج مجتمعة بكل تناقضاتها وعداواتها بأقل الخسائر، ورغم شيخوختها المبكرة تتوهم الغلبة على يفاعة الثورة، يفاعة لا يمكن تحجيم نموها، لا في امتدادها الأفقي ولا في بنائها العمودي، بعدما اجتمعت مكوناتها دون شروط، وغابت الفوارق الاجتماعية والمعرفية والمادية، فتماسكت على مواجهة أمراض السلطة المستعصية حتى لو كان آخر الداء الكيّ.

فرَض استعصاء السلطة خيار الكي على الناس، لم تلوّح الانتفاضة باستخدام أدواتها الثورية إلا بعد أن استنزفت كل إمكانية الضغط الممكنة على السلطة، منذ 95 يوماً لم يَرِد منها غير الاستهتار والمراوغة، مراهنة على ملل النشطاء وتراجعهم، وفي لحظة استشعار القوة حاولت استعادة المبادرة، كلفة أحد أعضاء خلاياها النائمة تشكيل حكومة مزيفة يرتدي فيها الوكلاء أقنعة الخبراء، مستغلةً ما توفر لها من مؤسسات تشريعية وتنفيذية تخضع لإرادتها، فاستخدمت مجلس النواب للتحايل على الشعب تحت ذريعة التمثيل الشعبي، حيث تحركه كتله السياسية المملوكة إما للأوليغارشيا السياسية وإما لبرجوازية الحرب الأهلية، لمحاولة حرف الانتفاضة عن مسارها بهدف إفراغها من أهدافها، تارةً عبر اختراق هواة السلطة بين بعض النشطاء، وتارة بالتلويح بخيار القمع عبر وسائل رسمية وغير رسمية، لكنها تمتلك شرعية من قبل من تبناها توازي شرعية المؤسسات الرسمية، نفّذت بوجه الانتفاضة غزوات تأديبية ولاحقت النشطاء في شوارع العاصمة، الذين تعرضوا لاعتداءات متكررة تحت ذريعة حفظ الاستقرار.

فمذ ثلاثة أشهر تمارس الطبقة الحاكمة عنفاً سياسياً دفع الانتفاضة إلى خيارات قاسية كانت مؤجلة، ولكنها تقع ضمن السياقات الطبيعية في الرد على عنف السلطة. فعلياً، لم يكن العنف الذي شهدته شوارع وسط العاصمة مفاجئاً، المفاجأة كانت في حجمه، موقعه ودوافعه، ولم يكن ضد ممتلكات عامة أو خاصة، بل كان بنظر المحتجين ضد ممتلكات للدولة حوّلها الساسة إلى أملاك خاصة، فأصبح مجلس النواب ليل السبت وليل الأحد مساحة لتبادل العنف ما بين الانتفاضة والسلطة.

بعد استقالة الحكومة رفعت الانتفاضة شعار إسقاط مجلس النواب، قامت بتبديل تكتيكي له صلة بالجغرافيا السياسية، حيث نقلت الانتفاضة زخمها الجماهيري من ساحة رياض الصلح المقابلة للسراي الحكومي إلى شارع البلدية المقابل لساحة النجمة حيث مقر مجلس النواب، في تلك اللحظة أحس المعنيون بأن ما فُرض على ساحة رياض الصلح سيُفرض في ساحة النجمة، وبأنَّ السلطة التشريعية لم تعد تملك صفة التشريع، وبات من حق الشارع استعادتها، فقد فجّر المنتفضون غضبهم بمجلس النواب، معلنين معركة استعادته بعدما تحول إلى أداة لصناعة الثورة المضادة، وعندما لاحت إمكانية سقوطه تداعت أذرع النظام الأمنية لحمايته، باعتباره ركن النظام الأول والأخير الذي بسقوطه تنتهي منظومة حكمت لبنان منذ 1992، لذلك كان بيان قصر بعبدا، حيث يقيم جنرال العهد ميشال عون، شديد اللهجة وهدد مباشرةً بمعاقبة من وصفهم بالمخربين.

لم تتردد السلطة في استخدام العنف السياسي ووضعت أجهزتها الأمنية بتصرف متهمين بخراب الجمهورية، لحمايتهم من جيوش العاطلين عن العمل ومن النشطاء والطلاب والمهنيين، إضافة إلى الفقراء في المدن والأرياف الذين نزحوا هذه المرة إلى العاصمة ليس بحثاً عن فرص للعمل بل لدعم فرصة التغيير حتى لو عبر العنف الثوري، يصفه الكاتب اللبناني ساطع نور الدين بقوله إن «ما جرى بالأمس كان طبيعياً جداً، بل هو حق مكتسب، مثله مثل أي شكل من أشكال المقاومة، لقوة - سلطة، تستولي على الدولة وتنحدر بها إلى القاع، وتحتل المؤسسات الرسمية، وتعيث بها فساداً ما بعده فساد، وتتعمد سرقة لقمة عيش الغالبية الساحقة من اللبنانيين».

تتمترس السلطة خلف عنفها السياسي وبيدها أوراق قوية عديدة تعتقد أنها ستمكّنها من الانتصار على الأزمة وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل «17 تشرين»، تراهن على مفاضلة الناس للاستقرار القاسي على الفوضى والمجهول، فيما تتبلور لدى الانتفاضة مجالات العنف الثوري الذي بطبيعته اللبنانية لا يمكن أن يُسقط السلطة، ولكنه سيجبرها على التنازل، ولأنَّ معادلة التنازل هزيمة بالنسبة إلى السلطة، ولأنَّ نصف ثورة بالنسبة إلى الناس انتحار، فإن خيارات العنف باتت ممراً لواحد من خيارين: إما العنف الثوري من أجل التغيير، وإما العنف السياسي من أجل استقرار النظام.

 مصطفى فحص