في دراسة نُشِرَت له في صحيفة رأي اليوم تحت عنوان:"عالم تحكمه نظريات الأموات"...كتب الدكتور رائد المصري...

في دراسة نُشِرَت له في صحيفة رأي اليوم تحت عنوان:"عالم تحكمه نظريات الأموات"...كتب الدكتور رائد المصري...

د. رائد المصري

بهدوء…فتاريخ الرأسمالية يُشير بوضوح الى أنَّ الأزمات الدورية التي يتعرَّض لها كل مرة هي من أساسيات نشاطه وصلب عمله وإستمراريته، وهي دائمة التفجُّر ومرافقة لتطوُّره كنظرية تبقى سابقة ومتقدمة بخطوات عن غيرها من النظريات الإقتصادية وهندسة العالم بما يحكم علاقاته ومصالحه، سواء رضينا بها ووافقنا أم رفضنا، فهذا هو واقع الرأسمالية القائم على الخلل الملازم لها بين العرض والطلب، وبين نموِّ القُدرات في الإنتاج نتيجة تراكم القيمة الفائضة في أيدي الرأسماليين ونمو الطلب الحقيقي على الإنتاج بأقل من نمو هذه القدرات الإنتاجية، وهو ما يُولِّد الفائض في الرساميل  تضغط على معدلات الأرباح أو التراكم في رأس المال وعائداته.

وعند تراكم الفائض المالي وعوائده المتزايدة من التصنيع والتفريط في النشاطات الإقتصادية والإستهلاك الدائم وكذلك من الفوائض المتأتِّية من النفط وأسعاره، تبدأ حركة رأس المال بالبحث عن فرص للتمدُّد خارجاً ليتمَّ تصدير رؤوس الأموال الفائضة هذه، ويدفع بها الى حروب بُغية إعدام وإمتصاص رؤوس الأموال التراكمية وتجديد الدورة الرأسمالية، حيث كانت الحروب تشكِّل إحدى وسائل تدمير الفائض المالي برفع الإنفاق العسكري كما عبر الدمار الذي تُحْدِثه ومن بعدها حركة الأعمال والإعمار بشروط الرأسمال، فيعود الطلب الى الإرتفاع مشكلِّاً قاطرة النمو الإقتصادي وتراكماً جديداً لرأس المال بعد إزالة القدرات الإنتاجية المعطِّلة والكابحة لمراكمة الربح، وهذا ما حصل بعد الحرب العالمية الأولى والثانية حيث كانت تستخدم في هذا الإطار نظريات وفلسفات إقتصادية ومالية لمفكِّرين لا تزال نظرياتهم تشكِّل الإلْهام الدائم حيث تدور حلقة الإقتصاد العالمي منذ التشكُّل الأولي للرأسمالية الحديث في سلسلة من الصعب أن تخرج أيٌّ منها عن أحد هؤلاء المفكِّرين والمبدعين في نظريات حكم العالم إقتصادياً ومالياً…

وحتى لا نقول ثلاثة أموات لا زالوا يحكمون العالم بنظرياتهم الإقتصادية إخترنا تسمية ثلاثة رؤوس ومفكِّرين لأنَّ الفكر لا يموت فيبقى ويتجدَّد ويتطوَّرعند كل تحدِّ إقتصادي أو مالي يتعلَّق بمستقبل الشعوب، ففي دراسات لكتابات كل من المفكِّرين كارل ماركس وجون ماينارد كينز (المعروف بالكينزية) وميلتون فريدمان. ثلاثة رجال أموات يتناوبون حكم العالم من أضرحتهم خاصة في أزمته المالية الكبرى الراهنة: بحسب وصف الكاتب والباحث سعد محيو في دراسة له نشرها في صحيفة الخليج بتاريخ22 /10/2008، فكل واحد من هؤلاء المفكرين له عصره الذهبي الأمر الذي دفع بكلِّ الباحثين والمنظِّرين الى الإعتقاد بأنَّ نظريته الإقتصادية والفلسفية ستسجِّل نهاية للتاريخ، فكلَّما بدا أنَّ هناك صعوداً على رأس قيادة النظرية العالمية لإحداها الثلاث يبقى السقوط النهائي والحتمي لبقيتها، لتبقى قرينتها متأهِّبة بإنتظار تعثُّر ما قد يصيبها لتتبوَّأ المركز الأول، فماذا يجول في رؤوس المنظرين والمفكرين الثلاثة وما هي نظرياتهم التي سيطرت على عقول الشعوب وإقتصادياتها ومستقبلها منذ ما يزيد على المئتي عام مضت الى اليوم؟؟؟

كتب جون ماينارد كينز محاولاً شرح أسباب الكساد الكبير الذي أصاب العالم في أزمة عام 1929 وكيفية العلاج رافضاً بقوة فكرة اليد الخفية التي تتدخَّل في السوق وتكون قادرة وحدها على معالجة الأزمات الدورية للرأسمالية، حيث دعا الحكومات الى التدخُّل والإنفاق بكثافة لتحفيز النمو مجدداً(وسنتطرق اليه عند الحديث في الأزمة العالمية عام 2008).فهدف كينز ليس تغيير النظام الرأسمالي بل إنقاذه من نفسه والحد من تفلُّته، وهو بقيَ غالباً يهاجم النظام الشيوعي ويندِّد بالماركسية ويدعو الرأسماليين الى حماية أنفسهم وكسب حروبهم بإدخال الجرعات الأخلاقية والإنسانية الى إقتصاد السوق.

في المقابل يقف تلميذ جون كينز الإقتصادي الليبرالي المتطرِّف ميلتون فريدمان الذي أعاد تطوير وتجديد أفكار آدم سميث وهو من أنصار ومبتدعي مبادىء واشنطن العشرة المشهورة  عام 1989 ، يدعو الى تقليص دور الدولة الى أدنى الحدود لمصلحة القطاع الخاص، هو أطلق كذلك سياسات إقتصادية بديلة دعَت الى منح الحرية للقطاع الخاص ليسمح بتدفُّق النقود وحذَّر الحكومات من التدخُّل للحدِّ من البطالة وتحسين الأوضاع المعيشية للفقراء،حيث ظهر الى السطح أشد أتباعه من النُّخب السياسية  كالريغانية ومارغريت تاتشر وبينوشيه الديكتاتور وقادة أوروبا الشرقة بعد العام 1989..

أما كارل ماركس فهو إعتبر أن ثمَّة تناقضات داخلية في الرأسمالية ستؤدِّي في النهاية الى تفجيرها من خلال الأزمات المتلاحقة على وقع الصراعات الطبقية ليولد مكانها نظام إشتراكي كما وُلدت الرأسمالية من رَحِم الإقطاعية، لكنَّه إشترط أنَّ هذه الثورات يجب أن تحصل في البلدان المتطورة صناعياً والتي نَضَجَت فيها الرأسمالية وليس في البلدان المتخلِّفة أو المتأخرة..

إذن فحتى الآن لا نصرَ نهائياً لأحد دعونا نقول، رغم تنبُّوءات فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنغتون، بل هناك تبادل أدوار وتقاطعات ورُبَّما تكامل، في حين أن حصول أي حدث عالمي أو كارثة بيئية مهولة مثل ما يحصل اليوم من تفشِّي وباء كورونا الناجم عن جشع هذه الرأسمالية المعولمة والمتوحِّشة ربَّما يتربَّع كارل ماركسس على عرش العالم بنظريته من جديد لكن بأسلوب إقتصادي وهندسة مالية فيها الطابع الأخلاقي والنزعة الإنسانية الإجتماعية التي يفتقر لها العالم اليوم…فهل هذه هي سياسة التوجُّه نحو الشرق مثلاً ..؟؟؟

الأزمات الإنفجارية العنيفة التي تُصيب الرأسمالية وتخلق من خلالها الكساد والركود والإفلاسات المصرفية والبنكية نتيجة التفلُّت العولمي وتوحُّشه وإستباحته كل الحدود لم تفاجىء أحد، سيَّما وأنَّنا أمام تعريف سائد للرأسمالية مغلوط يصفها بنيوليبرالية معولمة، فهذا التصنيف يعتبره البعض خادع في حين أنه نظام رأسمالي تسيطر عليه قلَّة من تجمُّعات المحتكرين الذين يُحْكِمون قبضتهم على القرارات الأساسية في الإقتصاد العالمي(في دراسة لسمير أمين/الإنهيار المالي وأزمة نظام/نشرت في جريدة الأخبارتاريخ 6/12/2008/ ترجمة أرنست خوري).حيث أنَّ وظيفتهم الأساسية بعد تشوُّه عمليات الإنتاج الإقتصادية صارت تصبُّ في عمليات الإحتكار المالي والصناعي ونقل المركز الأساسي للقرار الإقتصادي من إنتاج القيمة المضافة في القطاعات الإنتاجية الى إعادة توزيع الأرباح التي تأتي بها المنتجات المشتقَّة من التوظيفات المالية وهي ما أدَّت الى أزمة الإفلاسات المالية عام 2008 والتضخُّم في المضاربات العقارية ومحافظ البنوك.

هذا التشوُّه الحاصل هو ليس نظام إقتصاد السوق فقط بل عبارة عن رأسمالية تجمُّعات وإحتكار مالي تهرب الى الأمام في توظيفاتها المالية ولكنها لا تستطيع الصمود كثيراً لأنَّ بنية الإنتاج لا تنمو إلاَّ بنسب ضعيفة، بدليل أنَّ حجم التبادلات المالية العالمي بلغ طوال الخمس عشرة سنة الأخيرة حوالي ألفي مليار دولار في حين أن البنية الإنتاجية وإجمالي الناتج الوطني على الصعيد العالمي هو فقط 44 مليار دولار وهو تفاوت كبير في النسب، وهذا دليل على أنَّ خلف أزمات النظام الرأسمالي أزمة بنيوية تتعلَّق بالإقتصاد الحقيقي المنتج، لأنَّ الإنحراف المالي يؤدِّي الى شلل النمو وفي البنية الإنتاجية، وكل الحلول التي قُدِّمت لم تنتج إلاَّ الأزمات والركود في الإنتاج وتراجع في مداخيل العمال والإرتفاع في نِسَبِ البطالة والمزيد من الهشاشة الإجتماعية وتعميق الفقر، وخلف كل ذلك تتظهَّر الى السطح أكثر الأزمات البنيوية للرأسمالية نتيجة مواصلة اللَّحاق بنموذج نمو الإقتصاد الحقيقي وبنفس الوقت بنموذج الإستهلاك المرتبط به، بحث صار يشكل تهديداً حقيقياً لمستقبل البشرية وكل الخليقة.

إذا كانت أزمة الرهون العقارية عام 2008 والتي أفْلست البنوك وبيوتات المال وأفْقدت الناس عقاراتها ومنازلها نتيجة المضاربات المالية وتكديسها في محافظ البنوك والتي أدَّت الى أزمة كساد عالمي خطير وطويل وبعدها أزمة ركود ولا تزال، حاولت فيه منظومة الغرب والرأسماليات إعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط والعالم في الحروب المباشرة وغير المباشرة ورسم التحالفات السياسية والإقتصادية وإعادة تنظيم أدوات الإنتاج الرأسمالية وعلاقاتها الجديدة من دون محاولة التصويب على مكامِن الخلَل والإنحراف في أداء هذا التوحُّش الإحتكاري للرأسمال العالمي وهو يُعَدُّ كذلك هروباً الى الأمام، حيث جاء وباء كوفيد 19 ليعجِّل من إنكشاف هذه المنظومات الإحتكارية التي ردمت دور الدولة المركزي وسلَّمته الى شركات التأمين الخاصة الربحية التي وقفت عاجزة أمام إجتياح فيروس كورونا لأنَّ منطقها بالأساس ربحي مادي لا يتعلَّق بالأَنْسَنة، حيث شهدنا في الولايات المتحدة الأميركية الكثير من الفوضى وسْطَ نزاعات عنيفة محورها فقدان القدرة على قيادة الحرب ضدَّ فيروس كورونا وسَعي ترامب للبقاء في البيت الابيض يسانده في معركته القاعدة الشعبية للبيض المتعصّبين، هذا غير التقارير الأميركية  التي تُشير الى أنّ نحو أكثر 700 مليون شخص في العالم يتّجهون الى العيش في الفقر المُدقع، وهو ما يستوجب إجراءات عاجلة من الدول الغنية للدول النامية والفقيرة. عدا ذلك فإنَّ بلداناً تعيش أصلاً تناقضات داخلية مكبوتة تغلق قطاعات كاملة من إقتصادها الضعيف ما يؤدي الى تسريح جماعي لذوي الدخل المنخفض، وهذا سيعني ببساطة وإختصار إنعدام الإستقرار في هذه البلدان وإندلاع أعمال عنف ربَّما ستؤدِّي في حال حصولها الى تغييرات أساسية في بنية هذا النظام العجوز. والأخطر بالنسبة الى الإدارة الأميركية هو تراجع قدرة الجيش الاميركي على التدخل العسكري، فالركيزة الأساسية للقوة الأميركية العسكرية هي حاملات الطائرات وأساطيلها الضخمة، وهو ما بلغ ذروته مع إدخال واشنطن حاملتي طائرات جديدتين تعملان على الطاقة النووية، لكن فيروس كوفيد 19 ضرب طواقم أربع حاملات طائرات تعمل في البحار، وهي: روزفلت، ريغان، كارل فينسون، ونيميتز، لتجعلها جميعاً خارج الخدمة.

يقف العالم اليوم والعلم والبشرية أمام مصيبة، وفي عجز تام عن التحكّم في المسار لأنّ بداية الخروج والتعافي لا تعني نهاية الأزمة.فالأولوية هي لإنقاذ حياة الناس، بينما  في المقابل المصارف التي تستفيد حالياً من ضخِّ البنوك المركزية لها بآلاف المليارات لن تستثمر في إنتاج الكمامات والقفازات وتصنيع أجهزة التنفس الإصطناعي وإنتاج الأنزيمات اللازمة لتصنيع الفحوصات المشخّصة للوباء، ففي عام 2008، كلُّ السيولة التي كانت قد ضخّتها البنوك المركزية لم تذهب إلى الإقتصاد الحقيقي أي الإنتاجي، بل على العكس إستعملتها المصارف في أسواق البورصات.فأموال المصارف لم ولن تُكسِب البشر مناعة بوجه الفيروس رغم وِفرة السيولة الآتية، ولن تُنقِذ أرواحاً بشرية في ظلّ هذه النيوليبرالية المتوحشة المسلّحة بنظرية الداروينية الإجتماعية أو بنظرية البقاء للأقوى.

ولشرح هذا النمط الرأسمالي الإحتكاري المالي أكثر الذي يُحْدِث أزمات متنقِّلة حول العالم تصيب الفئات الضعيفة ومعظم من تبقَّى من الطبقات الوسطى رغم أنَّهم يشكِّلون الفئات الأكثر إستهلاكاً ودفعاً للضرائب، وبما أنَّنا نتحدَّث عن منظومة عالمية تتشابه مع بعضها في الأداء الإقتصادي والريعي والمضاربات في أسواق المال والربح السريع وفي التعدِّي على سيادة الدول وإقتناص الإستثمارات والعيش في الجنَّات الضريبية كما هو حاصل في بلد صغير مثل لبنان، حيث الصلاحيات المطلقة لحاكم المصرف المركزي ومعه المصارف وجمعياتها، والمَحْمِي من السلطة السياسية للقيام بهندسات مالية وتوزيع الأرباح والقيام بمضاربات مالية في سندات الخزينة وتديين المصارف بفوائد طويلة ومن ثم أعادة أيداعها في المصرف المركزي بفوائد عالية، أهْلك خزينة الدولة وأفقدها 100 مليار دولار من جيوب الناس والمودعين والموظَّفين والمتقاعدين، فصارت أصل المشكلة هو أنّ المواطنين بادروا الى إيداع أموالهم في المصارف، والمصارف بدورها قامت بإيداع ما نسبته 90 % من هذه الودائع في مصرف لبنان بفوائد عالية ومهولة، ومصرف لبنان تصرّفَ بهذه الودائع، وقدّمها كديون طلبتها الدولة لسداد العجز المتنامي في بعض القطاعات وقيمتها نحو 50 مليار دولار.الفجوة الكبرى هي أنَّ الدولة لم تسدّد ديونها لمصرف لبنان، علماً انّ الخطيئة الكبرى التي إرتكبها مصرف لبنان بحقّ البلد، هي بقبوله تديين الدولة وإتباع ذلك بهندسات مالية ثَبُت فشلها،إنه التَفلُّت من كلِّ ضبط أو قيد في إجراءات المضاربات المالية ونفخ الثروات والأرباح ولا دور للدولة نهائياً، فكيف تستمر في تحمُّل مسؤولياتها؟ ثم كيف يمكن لمصرف لبنان أو المصارف أو غيرها أن تقول إنّ الودائع محميَّة، طالما أنَّها غير موجودة؟ وما هي إجراءات الحل؟

ليس هناك من باب لأيِّ حل إقتصادي مالي يستطيع إرضاء الطبقات الإجتماعية ومنع إنهيارها ليس في لبنان فقط بل في إعادة هندسة بنية هذا النظام الرأسمالي الإحتكاري ومنع المزايدين على أفكار ميلتون فريدمان من الإستمرار في جشعهم ونهمهم الذي لن يتوقف، حيث أنَّ دور الدولة الموجَّه وفق نظرية كينز قد ألْغته مقرَّرات إجماع واشنطن ومبدأ الشمولية التي ينعت الغرب بها الأفكار الإشتراكية الإجتماعية وكارل ماركس هي غير مجدية، فدعونا نتطرق الى ما عمل عليه الغرب وعصب هذا النظام المتفلِّت المالي في عقر داره في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا إبَّان الأزمة المالية العالمية عام 2008 وذلك من ضمن مبدأ ضرورة المحافظة على السيادة الوطنية والأسواق المالية والنقدية:

ففي البداية  وبعد تفشي الأزمة المالية العالمية عام 2008، ومن مبدأ ضرورة التدخل الحكومي لمنع الإنفلاش وضبط القيود لدى المصارف والحدِّ من خسائرها في قيمة أصول البنوك والصناديق التي تحوز على كميات كبيرة من الأوراق المالية المضمونة بالقروض المتعثِّرة العقارية(هنا نتحدث عن تدخل الحكومات الأميركية والأوروبية)،قام البنك المركزي الأميركي بتخفيض الفائدة تدريجياً من 5% الى 2% عام 2008،وتابع بعدها تدخله عبر ضخَ السيولة، وبعدها وضع برنامجاً وخطة مالية تقضي بشطب أصول فاسدة قيمتها 250 مليار دولار، ومن ثم تمَّ رصْدُ 700 مليار دولار لتنفيذ الخطة المالية الحكومية، كذلك ولأجل محاولة إحتواء الإضطرابات في أسواق المال أعلنت وزارة المال الأميركية أنها ستدعم ب 50 مليار دولار صناديق الإستثمار التي تتعامل في سوق النقد(حازم الببلاوي/الأزمة المالية العالمية:محاولة للفهم/2008)، وفي تصريح شهير لوزير الخزانة الأميركية هنري بولسن حينها قال:” أن التدخل غير المسبوق والشامل للحكومة يعتبر الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون إنهيار الإقتصاد الأميركي بشكل أكبر”.موضحاً أنَّ وزارته ترتكز على إنشاء وكالة حكومية جديدة من شأنها إبتلاع كافة الأصول التي تهوي بالمؤسسات المالية الأميركية. بعدها إتخذت الإدارة الاميركية العديد من الخطوات التدخُّلية حيث قامت بالإستحواذ على نسبة 80% من عملاق شركة التأمينات “أيه آي جي” من خلال إقراضها مبلغ 85 مليار دولار، وساهمت وزارة الخزانة بمبلغ 20 مليار دولار في خطة إنقاذية لمؤسسة “سيتي غروب”، وبعدها تم وضع خطَّة الإنقاذ المالي تضمَّنت:

-السماح للحكومة الأميركية بشراء أصول هالكة بقيمة 700 مليار دولار مرتبطة بأزمة الرهن والإفلاسات

-إعطاء الخزانة الأميركية حق شراء أصول هالكة بقيمة 250 مليار دولار وفعها الى 350 مليار دولار ويملك أعضاء الكونغرس حق النقد على عملية الشراء التي تتعدَّى هذا المبلغ مع تحديد سقفه ب 700 مليار دولار.

-يكلَّف وزير الخزانة الأميركية بالتنسيق مع السلطات والمصارف المركزية لدول أخرى بوضع خطط مماثلة

-رفع سقف ضمانات المودعين من 100 ألف دولار الى 250 الف دولار لمدة عام كامل

-منح إعفاءات ضريبية تبلغ قيمتها 100 مليار دولار للطبقة الوسطى والشركات

-تحديد تعويضات رؤساءالشركات لدى الإستغناء عنهم

-يشرف مجلس مراقبة على تطبيق الخطة وهذا المجلس مؤلَّف من رئيس الإحتياطي الإتحادي ووزير الخزانة ورئيس الهيئة المنظمة للبورصة

-يشرف مكتب المحاسبة العامة التابع للكونغرس على حضور الإجتماعات الدورية في الخزانة لمراقبة عمليات شراء الأصول والتدقيق فب الحسابات

-تعيين مفتش عام مستقل لمراقبة قرارات وزير الخزانة

-إتخاذ اجراءات ضد عمليات وضع اليد على الممتلكات(مروان إسكندر/ملاحظات أساسية على الأزمة الدولية/مجلة معلومات الصادرة بعدد 63 تاريخ شباط 2009 ص،42)

وقد سارت دول الإتحاد الأوروبي على المسار الاميركي من التدخل الحكومي حيث عملت على إبتكار أشكال من التنظيم الصارمة لنشاطات وكالات التصنيف التي تدقِّق وتتحقَّق من قدرة المقترضين ووضع هيكلية أوروبية شاملة للمصارف لأجل عمليات الدمج العابرة للحدود، وكذلك إطلاق البرنامج البريطاني الذي يسمح بتملُّك أسهم المصارف العاملة وتأمين السيولة للمصارف كي تستعيد دورة الإقراض بعد نشاطها وتعزيز التعاون التشريعي والمالي بين بلدان السوق الأوروبية المشتركة، حيث سارعت إلمانيا الى تبنِّي المشروع البريطاني كذلك، وتبنى المصرف المركزي الأوروبي سياسة تأمين السيولة للمصارف الأوروبية وتوفير السيولة بالدولار للمصارف التي لديها إلتزامات بالعملة الأميركية.

إن التكاليف الهائلة والتشوُّهات البنيوية الكبيرة الصارخة التي طبعت هذه الحقبة من الرأسماليات الإحتكارية عبر التضخُّم في الإقتصاد المالي والريعي على حساب الإقتصاد المنتج والحقيقي (بحسب وصف الخبير كمال حمدان/في مقال له في صحيفة السفير/ تاريخ:10/11/2008) وكذلك التراجع في حجم الإستثمار المنتج كنسبة من الناتج المحلي والإزدياد الحاد في الفوارق بين الأغنياء والفقراء على مستوى الدول وفي داخل كل دولة والإنهيار الكبير في نسبة الأجور ونظم آليات الرقابة على عمل الأسواق، كلُّها سياسات أهْلَكت وأخَلَّت بمنظومة الإقتصاد العالمي القائم على العرض والطلب والنمو والتوازن في الأسواق، بحيث بات العالم بحاجة الى إستحداث صِيَغ متجدِّدة من الأفكار الكينزية تقوم فقط بتحديد وإعادة وظائف الدولة المتعارف عليها في الحقلين الإقتصادي والإجتماعي وبعده السياسي. ولتحقيق ذلك لا بدَّ من إعادة رسم لدور الشركات العملاقة في القطاعات الخاصة القائمة على التركُّز والتمركز في إندماجاتها، وكذلك الدولة التي إفتقدت في العقود الأخيرة الكثير من العناصر المكونة لوظائفها كدولة راعية أو الدولة الأمة، وهذا يرجح إعادة الصراعات الحادة بين البلدان وداخلها قبل التوصل الى إعادة إنتاج توزيع الربح والخسارة بين القوى الإجتماعية المختلفة التي ستشكل القاعدة الإجتماعية البديلة.

وربَّما تمثِّل هذه السلسلة من الأزمات الرأسمالية المتلاحقة ومعها الأوبئة الفتاكة مناسبة لفكِّ الإرتباط عن هذا النموذج الرأسمالي الإحتكاري المادي عبر تعزيز السيادة الوطنية على الأسواق المالية والنقدية، والسيادة على التكنولوجيا الحديثة، وإعادة تحصيل حق الوصول الى الثروات الطبيعية وتغيير مسار إدارة العولمة وإنتزاعها من أيدي التجمُّعات الإحتكارية المالية، وكذلك التحرُّر من أوهام فكرة رأسمالية وطنية مستقلة في النظام الرأسمالي العالمي، والتوجُّه نحو الإقليمية التي باتت ضرورية كدول غربي آسيا في الشرق الأوسط وكدول عملاقة كالصين والهند والبرازيل وضرورية لدول في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية.حيث انه وفي هذا الوقت حصل حدث مهمّ في دلالاته لناحية الإنتقال إلى خطوة عملية للتخلص من هيمنة الدولار، خطوة تمثَّلت في إعلان الدول الثماني الأعضاء في منظمة ​شنغهاي​ للتعاون الإقتصادي ( (SCO، بما في ذلك الصين وروسيا و​الهند​، إذ قررت إعتماد العملات المحلية والوطنية في التبادل التجاري والإستثمار الثنائي وإصدار سندات، بدلاً عن الدولار الأميركي، ما يمكن له أن يُنهي عقوداً طويلة من الهيمنة الأميركية على العالم في التجارة و​الذهب​ والتعاملات النفطية، بحسب ما أوردته شركة خدمات التحليل الاستراتيجي عبر أوراسيا (بحسب ما أوردته الكاتبة الصحفية “كفاية أولير” في صحيفة الأندبندنت في مقال لها بعنوان : دول “شنغهاي” تتحلل من علاقتها بالدولار الأميركي “المهيمن”/ تاريخ:19/3/2020).وتأتي أهمية هذه الخطوة وأثرها من كون الدول المذكورة تشكِّل ثقلاً سكانياً عالمياً يتجاوز نصف سكان العالم، وتحوز على قدرات وموارد إقتصادية وثروات نفطية وغازية ومعدنية هائلة وتملك التقنيات المتطورة في التكنولوجيا، والأبحاث العلمية، وتحوز على قدرات عسكرية منافسة بقوة للقوة الأميركية الغربية.. ما يجعل القرار له أثر كبير على التبادلات التجارية، ويؤدّي إلى تراجع كبير في إعتماد الدولار في العلاقات التجارية بحجم ما لهذه الدول من وزن ودور في ​الاقتصاد العالمي​..

اليوم هو المناسبة التي لا يمكن أن تتكرَّر من أجل تثبيت مفاهيم الإشتراكية في القرن الواحد والعشرين القائمة على الأنسَنَة في العلاقات الدولية والعدالة والقِيَم السامية، لتعزيز الإنسان الفرد كقيمة وكغاية بحدِّ ذاته، وجعله محوراً أساسياً في الحياة. ففي ظلِّ هذا الواقع القائم والذي عجّل وباء كورونا في إظهاره، وأمام تجربة الدولة الصينية في التعاطي معه، ومن ثم إعادة تشغيل العجلة الاقتصادية، فإنَّ الرهان يجب أن لا يكون إلاَّ في إستعادة دور الدولة المركزية في الإستثمار الإقتصادي الذي يعطي المردود الإنساني المباشر:  في الصحة، الغذاء، الزراعة، الإنتاج الداخلي، الإكتفاء الذاتي، التصنيع الذي يحترم البيئة. فلا يمكن البقاء والعيش في ظلّ الخضوع الكامل للعرض العالمي لهذه الحاجيات الصحية والغذائية ولمنطق الإستهلاك الدائم والتلقي، لأنَّنا نرى اليوم هشاشة هذا المسار التدميري وشركات الرأسمال الإحتكارية وأساليب الحكم الريعية بالإبتعاد عن الإقتصادات المنتجة الحيَّة، التي تجعل البشر مجرَّد أرقام يتم التعامل معها كعبء ثقيل في ميزان الربح والخسارة، خصوصاً أنَّ هذا الوباء لن يكون آخر الأوبئة الآتية.

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.