سيناريو ما بعد 4 آب... لبنان مُهدّد بالمجاعة وبقانون ماغنيتسكي

سيناريو ما بعد 4 آب... لبنان مُهدّد بالمجاعة وبقانون ماغنيتسكي

يا بيروت، يا بيروت، ماذا حلّ بكِ؟

عشرات الآلاف من المواطنين تظاهروا يومي السبت والاحد للتعبير عن غضبهم مما آلت إليه الأمور على كل الأصعدة. وسط بيروت كان ساحة حرب بكل ما للكلمة من معنى إذ بالإضافة إلى المظاهرات والإحتكاكات الجسدية بين المتظاهرين والقوى الأمنية والقنابل المُسيّلة للدموع، كان هناك رصاص حيّ!

الثامن من آب شهد إنتفاضة الشعب ضد السلطة السياسية حيث تمّ كسر كل المحظور وتمّ إقتحام وزارات وتعليق مشانق صورية في ساحة الشهداء. بيروت كانت ترسم معالم مرحلة جديدة، مرحلة لا وجود للفساد فيها. إلا أن هذا الفساد هو أقوى من الشعب وأقوى من الدولة ومؤسساتها وبالتالي بدأت الأصوات

تتعالى خصوصًا من المعارضة مطالبة بتدويل التحقيق.

عمليًا القضية اللبنانية أصبحت قضية دولية، إذ إن الأحداث دفعت إلى تدخّل فعلي من قبل الدول الكبرى وأصبح معها لبنان مادة تجاذب بين الأميركيين والروس من جهة على ما أكّده تصريح السفير الروسي في لبنان وبين الأميركيين والصينيين من جهة أخرى على ما أكّده تصريح السفير الصيني في لبنان وإستعداد بلاده لإعادة بناء المرفأ.

السؤال الأساسي الذي يطرحه كل لبنان هو: ماذا بعد؟ هذا السؤال يحمل في طياته تعقيدات كبيرة حيث هناك تشابك وتعارض لمصالح دول كبيرة في لبنان كما أن هناك عوامل قائمة تُشكّل بحد ذاتها مُعطيات لا يُمكن تجاهلها مهما حاول البعض القيام به.

من المعروف أن لبنان يمرّ في أزمة مالية ـ إقتصادية ـ نقدية كبيرة وذلك من أيلول الماضي. وإذا كان أساس هذه المشاكل محصورًا في فساد عمره من عمر لبنان وترسّخ أكثر في مرحلة ما بعد الطائف، إلا أن المواجهة الأميركية ـ الإيرانية على الساحة اللبنانية تُشكّل عنصرًا رئيسيًا في الأزمة مع بدء الحصار الأميركي على قدوم الدولارات إلى لبنان وذلك بهدف التضييق على حزب الله.

وآتى تفجير المرفأ ليقضيَ على الإقتصاد من أساسه مع ضرب أهم شريان حيوي في لبنان كان يُغذّي ليس فقط السوق اللبناني بل أيضًا السوق السوري. وإذا كانت التوجّهات هي نحو تفعيل العمل في مرافئ طرابلس، صيدا، صور، جونية والجّية، إلا أن كل هذه المرافئ مُجتمعة، لن تستطيع أن تحل محلّ مرفأ بيروت الذي كان يُشكّل 70% من إجمالي التبادل التجاري للبنان مع العالم! وبالتالي فإن عملية الإستيراد أصبحت أطول وأكثر كلفة مما يزيد الضغط على لبنان أكثر فأكثر.

المساعدات الدولية الإنسانية للبنان لم تتأخر بعد الكارثة وهذا أمر معروف بين الدول وهو غير مشروط بأي إعتبارات سياسية أو إقتصادية أو حتى أمنية. المؤتمر الإفتراضي (عبر الإنترنت) الذي تمّ عقده البارحة عند الساعة السادسة بتوقيت بيروت وضمّ رؤساء ومسؤولين من دول عديدة على رأسها فرنسا والولايات المُتحدة الأميركية وألمانيا، وبريطانيا وإيطاليا... بالإضافة إلى الأمين العام للأمم المُتحدة ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون، كانت نتائجه معروفة سلفًا: مساعدة للشعب اللبناني وليس للسلطة. وإذا أرادت السلطة مُساعدات لإعادة الإعمار والخروج من الأزمة المالية، فعليها إجراء إنتخابات نيابية مُبكرة، إجراء إصلاحات ونأي لبنان بنفسه عن الصراعات الإقليمية.

الثقة الدولية في السلطة السياسية هي في أدنى مستوياتها على ما أكدّه الرئيس الفرنسي والذي قال إن المساعدات الإنسانية لن تمر عبر الحكومة بل عبر جمعيات ومؤسسات جدّية مثل الجيش اللبناني والصليب الأحمر اللبناني.

الرئيس الفرنسي الذي يُعتبر مهندس هذا المؤتمر، كان قد أشار إلى نظيره الأميركي إلى أن «سياسة العقوبات التي تتبعها الولايات المتحدة في لبنان لا تخدم بل على العكس تؤدي الى سياسة معاكسة تماماً». إلا أن هناك توجّهًا دوليا فاعلا لتدويل قضية التحقيق والذي من الظاهر أنه مرفوض من قبل رئيس الجمهورية ميشال عون نظرًا للمخاطر على السلم الأهلي التي قد تنتج عن هذا التدويل.

سيناريو ما بعد 4 آب

التمايز الفرنسي ـ الأميركي على القضية اللبنانية واضح المعالم. وإذا كانت باريس تسعى إلى تحييد لبنان عن مخاطر العقوبات الأميركية، إلا أن واشنطن مُصمّمة على تضييق الخناق على حزب الله وهو أصبح مُتوافراً أكثر بعد كارثة مرفأ بيروت.

عمليا، التفجير الذي حصل في المرفأ في لبنان يضع كل المسؤولين منذ العام 2013 وحتى 4 آب في منظار قانون ماغنيتسكي الدولي والذي يضع تحت العقوبات كل من يخرق حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المُتحدة. وبالتالي أصبحت الولايات المُتحدة الأميركية تمتلك سلاحًا إضافيًا في وجه السلطة السياسية. من هنا تأتي المخاوف اللبنانية من تدويل التحقيق.

في العام 1968، تمّ فرض عقوبات على النظام العنصري في جنوب أفريقيا إستمر عقودًا إلى أن سلّمت السلطات في جنوب أفريقيا السلطة إلى المعارضة. هذا الأمر قد يحدث مع لبنان مع فارق أن جنوب أفريقيا كانت تتمتّع بإكتفاء ذاتي على عدّة أصعدة (غذائية، إنتاج الأسلحة...) وهو ما لا يملكه لبنان. لذا من المُحتمل أن تعمد السلطات الأميركية والأوروبية إلى فرض هذه العقوبات على السلطة في لبنان في حال لم يتمّ الإنصياع إلى المطالب الدولية الآنفة الذكر أعلاه وهو مرجّح مع الإنقسام الكبير للشعب اللبناني مما يُعقدّ النتائج.

إلا أن المشهد اللبناني يحوي على عوامل تُعقد الأمور أكثر مما كانت عليه في جنوب أفريقيا ومن بينها وجود مليون ونصف مليون نازح سوري على الأراضي اللبنانية. أضف إلى ذلك المخاوف من أن تستغل «إسرائيل» الوضع لزيادة وتيرة الضربات للوجود الإيراني في سوريا كما ووجود حزب الله فيها. هذا الأمر مُحتمل جدًا وهو ما يُبرّره هدوء سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في إطلالته الأخيرة مما يُمكن تفسيره على أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة!

إلا أن الأصعب في الأمر هو الشق الأمني وبالتحديد إمكانية وضع لبنان تحت الفصل السابع. وإذا كنّا نعتقد أن هذا الأمر قد يطال أجزاء من لبنان فقط (مثل بيروت)، إلا أن تبريره سيكون من منطلق القمع الذي قد يتمّ بحق المتظاهرين والنزوح السوري الذي قد يتجه شمالا إلى أوروبا وهو ما لا يُريده الأوروبيون.

بالطبع روسيا والصين اللتان تملكان حق الفيتو في مجلس الأمن، لن تسمحا بقبول هذا القرار إلا إذا حصلت على مقايضات بمقابل القبول. من هنا نرى أن هناك إحتمالين: الأول هو صدور هذا القرار من قبل مجلس الأمن والثاني الإنفرادية الأميركية والأوروبية لتنفيذ مثل هذا السيناريو. هذا الأمر يطرح إمتدادًا للأزمة إلى ما بعد الإنتخابات الأميركية التي لن تُغيّر نتيجتها شيئًا نظرًا إلى التناغم بين الجمهوريين والديموقراطيين في الكونغرس الأميركي على الموضوع اللبناني. من هنا يرى البعض أن المؤتمر الدولي الذي تمّ البارحة هو تخطيط لإيصال المساعدات الإنسانية للفترة المُقبلة.

إعادة الإعمار... أبعاد إستراتيجية

إقتصاديًا الأضرار التي خلّفها تفجير المرفأ تتخطّى الحدود اللبنانية وتطال سوريا. فمرفأ بيروت كان يُغذّي السوق اللبناني وقسم من السوق السوري، وبالتالي فإن التداعيات ستطال اللبنانيين، النازحين السوريين والمواطنين السوريين في سوريا.

هذه التداعيات ستُترجم بنقص بالمواد الغذائية والأساسية مع إرتفاع المدة لوصول البضائع المُستوردة ولكن أيضا الإرتفاع في الكلفة الناتج عن المصاريف الإضافية. إلا أن الأخطر يبقى على الصعيد اللبناني الذي كان إقتصاده يعتمد بدرجة أساسية على الإستيراد ومُعظم الشركات الموجودة بما فيه الصناعية والزراعية تعتمد بشكل أو بآخر على الإستيراد. من هذا المُنطلق، نتوقّع أن ينخفض الناتج المحلّي الإجمالي ما بين 5 إلى 10 مليار دولار أميركي إضافية مما يعني وصوله إلى عتبة العشرين مليار دولار أميركي بعد أن كان بحدود الـ 50 مليار دولار أميركي العام الماضي!!

وبالتالي، فإن إعادة إعمار المرفأ هو قضية كيانية بالنسبة إلى لبنان خصوصًا أن إقتصاده بالكامل مبني على هذا المرفأ. لكن عملية تمويل إعادة الإعمار هذه ترتبط بشروط صندوق النقد الدولي والتي يُمكن ترجمتها بعنوانين رئيسيين: الإصلاحات والنأي بالنفس. وبالتالي لن يكون للبنان قدرة في الوقت الحالي على إستيفاء هذه الشروط.

أمّا بالنسبة للصين التي أبلغت لبنان إستعدادها إعادة الإعمار بالكامل للمرفأ، فهي تصطدم بالإرادة الأميركية الرافضة لتخفيف الضغط على لبنان طالما لم يتمّ إستيفاء هذه الشروط بالإضافة إلى ترسيم الحدود الجنوبية (برية وبحرية) مع العدو الإسرائيلي. وبإعتقادنا إن الصين التي تُصدّر ما يزيد عن 550 مليار دولار أميركي إلى الولايات المُتحدة الأميركية، لن تُضحّي بهذه الصادرات مقابل حفنة من المليارات التي قد تستحصل عليها من مرفأ بيروت. من هذا المُنطلق، نرى أن هناك مُشكلة إعادة إعمار قد تفرض على الحكومة التوجّه إلى حلول أخرى لن تكون بحقيقة الأمر حلولا بل مشاكل إضافية.

كان من المفروض أن يكون مرفأ بيروت عنصرًا أساسيًا في عملية إعادة إعمار سوريا، وبالتالي فإن تدمير هذا المرفأ سيحرم لبنان من المشاركة الفعلية في إعادة إعمار سوريا وتحويل الفوائد إلى موانئ إقليمية أخرى!!

إن عملية إعادة البناء التي قد تصل كلفتها بعد تقشّع الأضرار إلى أكثر من 200 إلى 300 مليون دولار أميركي، تفرض إيجاد التمويل وهو ما يُمكن توفيره من خلال الطلب إلى البنك الدولي تحويل قسم من الأموال المرصودة لسدّ بسري مثلا إلى المرفأ خصوصا في هذه الأوقات العصيبة لا سيما أن البنك الدولي كان منح الدولة اللبنانية إمكانية الإستفادة من هذه الأموال في مشاريع أكثر إلحاحًا.

إستقالات النواب ولعبة الوجود

التطورات الأخيرة دفعت ببعض النواب المعارضين إلى الإستقالة، إلا أن العدد القليل لهذه الإستقالات لن يتعدّى إمكانية حصول إنتخابات فرعية في مهلة شهرين من أخذ السلطات العلم به وهو ما قد تتجاهله هذه السلطات في هذا الظرف العصيب.

الفريق المعارض الأكبر والمُتمثّل بالقوات اللبنانية، والمُستقبل والإشتراكي، لا يرى في الإستقالة حلا إذ بحسب النائب السابق وليد جنبلاط، ستترك الإستقالة الساحة خالية للخصوم. وبالتالي وضعت هذه القوى المعارضة شرطًا أساسيًا للإستقالة ألا وهو تدويل القضية اللبنانية مما يعني أن هذه القوى بإنتظار مُعطيات خارجية قد تُغيّر المشهد السياسي بأكمله.

وباعتقادنا، هناك ترسيخ أكثر للمواقف الإنقسامية خصوصًا أن المحصاصات التي كانت قائمة على مرفأ بيروت قد إختفت مع إختفاء هذا الأخير وبالتالي أصبحت اللعبة لعبة وجود للأفرقاء السياسيين.

حكومة تصريف الأعمال

ما حدث في 8 آب في ساحة الشهداء وغيرها من أماكن التظاهرات، يطرح السؤال عن مدى شرعية المؤسسات الدستورية شعبيًا (وليس دستوريًا). لكن هذا الأمر يبقى محدودًا نسبة إلى الإستخدام الخارجي لهذه الشرعية، نظرًا إلى أن الدول الغربية ستتعاطى مع الحكومة (في حال حصول ذلك) على أنها حكومة تصريف أعمال في المعنى المجازي.

أمّا على الصعيد الداخلي، لن يكون هناك هامش كبير للحكومة للعمل خصوصا على جبهتها الأساسية أي المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بعد الإنفجار المروع الذي أصاب المرفأ والتعديل الجذري في أرقام الخطة الناتجة عن توقّع تراجع الناتج المحلي الإجمالي بما لا يقّل عن 5 إلى 10 مليار دولار أميركي عن الأرقام الموجودة في الخطة الحكومية.

يُضاف إلى ذلك أن طرح رئيس الحكومة عن نيته تقديم مشروع قانون لإجراء انتخابات مبكرة إلى مجلس الوزراء وذلك اليوم وإستعداده تحمّل المسؤولية لشهرين حتى تصل الأحزاب السياسية الى اتفاق، تؤدّي إلى نتيجة عملية صعوبة أخذ القرارات.

هل يستطيع قادة الاحزاب السياسية الوصول إلى إتفاق على نظام سياسي جديد في لبنان بالمعنى الغربي؟ هل تكون الإنتخابات النيابية المبكرة هي الحلّ في هذه الأوقات أو أنها هو هروب إلى الأمام في الوقت الذي فيه البلد بأمس الحاجة إلى إصلاحات لها نتائج فورية تنعكس مباشرة على جو الثقة يُساعد على تحفيز النمو الإقتصادي ويستجلب المساعدات العربية والغربية.

ختاما لا بد أن نشير أنه على الحكومات التي تتصف بحكومات التكنوقراط أن تكون لها خطوات عملية مُدرسة مسبقًا في ضوء خطة إستراتيجية كاملة قابلة للتطبيق وللتطويع في الأزمات الكبرى وهذا ما لم نشهده بعد في لبنان.

بروفسور جاسم عجاقة - الديار