ولنا في مقاومة التطبيع حياة

ولنا في مقاومة التطبيع حياة

بقلم: وائل قنديل*

يدرك الصهيوني أن مصافحة لاعب كرة أو مطرب أو مثقف عربي أهم وأشد أثرًا وفائدة من التوقيع مع كل الأنظمة، تمامًا كما أن لقطة في مهرجان دولي، أو مؤتمر، تجمع بين عربي وصهيوني يتبادلان الابتسامة، ويردّدان أقوالًا واحدة، تبدو فضفاضة وفاخرة، هي أخطر من ألف خطاب وبرقية وإعلان مبادئ بين الكيان الصهيوني وأي حكومة عربية.

هم يدركون أن مكسبهم من مصافحة في مؤتمر، أو مناظرة في منتدى، بصرف النظر عمن يفوز أو يخسر، أو دور في فيلم مع ممثل "إسرائيلي"، يفوق مكاسبهم من مفاوضات وفود رسمية تذهب وتعود، فالواقع أن ثمرة فراولة واحدة، أو كيلو خيار، أو حبة عنب مهجنة ببذور "إسرائيلية"، مهما كانت حلاوة المذاق وارتفاع القيمة الغذائية، أكثر خطورةً وسميةً من زرع عربي ضعيف ينبت عشوائيًا في تربة عربية، ذلك أن الهدف عندهم ليس المعدة، بل تسميم الروح، بحيث لا تعود تدقق كثيرًا في القيمة والمعنى والمبدأ الأخلاقي، بقدر ما تنشغل بالمكسب والعائد والمصلحة.

منذ أن أشهرها أنور السادات في "كامب ديفيد" 17 سبتمبر/ أيلول 1978، والهدف الأول والأخير على الأجندة الصهيونية هو حالة تطبيع شعبي، تستهدف الطالب والفلاح والعامل والمثقف، وتجعل السفر بسيارة نيفا 1600 من دمياط إلى تل أبيب، كما فعلها المسرحي المصري علي سالم، أيسر وأقصر من رحلة بالقطار من القاهرة إلى سوهاج.. كما تجعل من حضن السائحة "الإسرائيلية" في طابا أو دهب أو شرم الشيخ، الملاذ الأكثر رفاهة ودفئًا لغرائز الشاب المصري المحبط من إمكانية الحصول على فرصة عمل، أو الزواج من مصرية أو عربية، فيكون السفر إلى الكيان الصهيوني والعمل هناك حلًا سهلًا

اثنان وأربعون عامًا بالتمام والكمال، انقضت على توقيع أنور السادات مع، أو بالأحرى للعدو الصهيوني. جيل كامل ولد وترعرع ونضج وسط غابة كثيفة وشاسعة، تحرق فيها يوميًا المفاهيم والمعاني والقيم، في جحيم إعلامي تعليمي ثقافي اقتصادي، لتثبيت قيم جديدة، تتأسّس على ما يعرف بثقافة السلام .. هذا الجيل لم يتشرّب كل تلك السموم المفروضة عليه، وبقي التطبيع شأنًا يخص حكومات، لتكون المحصلة فشلًا وتحطمًا لمحاولة تغليب "وداعة وهم السلام الملوث" على "رعب واقع الاحتلال المجرم"، تلك الجدلية التي برقت في عديد الأعمال الأدبية، أهمها وأوضحها معالجة الأديب المصري محمد المنسي قنديل في روايته القصيرة "الوداعة والرعب" التي تحولت إلى فيلم سينمائي، وانتهت باستعصاء الذات المصرية العربية على الذوبان في أحماض التطبيع.

بعد 42 عامًا من الافتتاح، ها هو الشاب عبد الله بن زايد وزير خارجية الإمارات، يسيل لعابه أمام غلاف اتفاقية التطبيع الثلاثي، وكأنه شاب تتفجّر مراهقته وتتطاير أمام إغراء سائحة صهيونية على شواطئ خليج العقبة .. وها هي امرأة إماراتية تظهر أو يتم إظهارها وعلم الكيان الصهيوني فوق أنفها، متوسطًا ألوان كمّامة واقية من كورونا، أو على صدرها، مهيمنًا على نقوش تي - شيرت التطبيع .. وها أنت ترى أطفالًا تنتهك براءتهم بالغناء بالعبري، وشيوخًا يرقصون في حفل ماجن لفرض دين جديد وهمي وزائف، يسمى"الدين الإبراهيمي"

ها أنت ترى مشاهد مركبة لما يصلح لكي تطلق عليه انتحار الذات وإخصاء الروح العربية، فهل تعتقد أنهم انتصروا ونجحوا في فرض التطبيع؟ إنهم يحاولون إكراهك على قول ذلك، يدفعونك إلى الإستسلام أمام وحشية المشاهد والصور، لكي ترضخ وتسلم بأن هذا هو الواقع، غير أن الواقع الحقيقي والفعلي شيءٌ آخر، تعبر عنه روابط التطبيع المتنامية في دول الخليج العربي، وقوافل التذكّر وتجديد العهد مع فلسطين الممتدة في براح "السوشيال ميديا"، واليقين المتجدّد بأن ذلك كله سيمضي وينتهي مع أول استفاقةٍ شعبيةٍ تنتفض ضد خدم "إسرائيل" في قصور الحكم العربية المنخرطة في عملية التطبيع، تمامًا كما فعلها المصريون، عقب إطاحة رجل "إسرائيل" في القاهرة، وأغلقوا سفارة العدو وطردوا السفير وأحرقوا العلم.

 لذلك كله وغيره، حين نقول إن رهاننا على ضمير الشعوب ووعيها هو الفائز، فإننا لا نحلق في فراغ الأحلام والأوهام الساذجة، بل نقرّ الواقع، ونحاول حمايته، من أولئك الذين يخدعون أنفسهم والجماهير بأن السادات كان سابق عصره، ومتسقًا مع مقتضيات الواقع، أو أولئك الذين يردّدون بسذاجة أن يسار الاحتلال المثقف طيب، بينما يمينه المتغطرس شرير، فكل الاحتلال جريمة، وكل محتل عدو.

هنا قمة الدجل والتشويش على حقائق التاريخ، ذلك أن جناية السادات على فلسطين، وعلى الذات العربية، أكبر وأعمق أثرًا من رقصات الصغار في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، ابتهاجًا بالتوقيع على العار في 2020، فالسادات سلم انتصارًا عسكريًا للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، مقابل وهم رخاء لم يتحقق .. لم يكن مجبرًا على المضاربة بأوراق نصر أراد له ألا يكتمل في بورصة سلام كاذب.

دقّق في اللحظة التي قرّر فيها أنور السادات أن يولي وجهه شطر الكيان الصهيوني، ستجد أنها التالية، مباشرة، للحظة التي أدار فيها ظهره إلى الشعب المصري، وكشر عن أنياب الانتقام منه، بعد أن تجرّأ الشعب على الانتفاض ضده في 18-19 يناير/ كانون ثان 1977.. لقد فعلها السادات نكاية في شعب، وتبديدًا لانتصار جيش، فما حصدت مصر، وما حصد العرب، إلا مزيدًا من الانهزام والتقزّم.

هم لم ينتصروا، ونحن، الشعوب العربية، لم ننهزم ولن ننكسر، وسيبقى التطبيع عارًا، في حياة المطبعين، وبعد موتهم، وأمامك حالة علي سالم، المطبع الأوضح والأسبق، حين مات لم يجدوا عدد أصابع اليدين يشيعونه ويصلون عليه.

لذلك كله، لنا في رفض التطبيع حياة، مع الوضع في الاعتبار أن رفضنا التطبيع ليس لأنه ضار سياسيًا واقتصاديًا، وإنما لأنه عار إنسانيًا وأخلاقيًا، فرفضك التطبيع مع احتلال غاصب يعني مباشرة رفضك القبول بمنطق السرقة والاغتصاب والسطو والظلم، في أي وقت، وفي كل مكان، ومن أي طرف.

*كاتب مصري


آخر الأخبار