بايدن رئيساً بعد ثلاث ولايات استثنائية.. الانتخابات أفرزت حقائق!

بايدن رئيساً بعد ثلاث ولايات استثنائية.. الانتخابات أفرزت حقائق!

«لم تسعدني نتائج انتخابات عام 2008، ولكن كان من الواجب عليّ القبول بها. والقبول ليس مجرد سلوك مؤدب لائق؛ إنما هو فعل ضروري لاحترام إرادة الشعب الأميركي؛ فعل يُعدّ من أولى مسؤوليات كل زعيم أميركي». هذا ما قاله المرشح الجمهوري جون ماكين بعد خسارته السباق الرئاسي عام 2008، مختصراً جوهر الديمقراطية الأميركية.

انتخب جو بايدن؛ الرئيس الأميركي السادس والأربعون، بعد انتخابات حملت معها الكثير مما يجعلها تاريخية؛ ومفصلية وحرجة.

فولاية الرئيس دونالد ترمب كانت استثنائية؛ إذ لم تشهد البلاد في تاريخها الحديث ما شهدته في خلالها من تشكيك في صدقية المؤسسات وزعزعة للثقة بالنظام، مروراً بعدد الاستقالات والإقالات ضمن الإدارة، وارتفاع حدة العنصرية، وصولاً إلى تباينات بلغت حد الخلاف مع بعض الحلفاء، هذا من دون الحديث عن شخصية ترمب الجدلية وشعبويته وسلوكه الخارج عن البروتوكول المألوف.

وإنصافاً لترمب، لم تكن ولايته وحدها استثنائية؛ بل سبقتها في ذلك إدارتا الرئيسين جورج بوش الابن وباراك أوباما. فالأول كان إشكالياً إلى حد ما في بعض تصرفاته، وشهدت أميركا معه بروز المحافظين الجدد، وسياسة الحرب الاستباقية، والفوضى الخلاقة، وإحداث تغيير في المجتمعات الأخرى تحت اسم نشر الديمقراطية. بعدها وصل أوباما بصفته أول رئيس من أصول أفريقية في اختراق لصالح الديمقراطية الأميركية، رغم أن الأحداث أثبتت لاحقاً أن أميركا لم تكن مستعدة بعد لرئيس أسمر، فشكّل وصوله تحدياً للذين يؤمنون بتفوق العنصر الأبيض، من دون أن يتمكن في المقابل من إرضاء الأميركيين من أصول أفريقية، وشهدت ولايته الثانية أشد الاضطرابات العنصرية. خارجياً؛ بدأ أوباما سياسة القيادة من الخلف، لا سيما في إدارة أزمات الشرق الأوسط ودعم ما يسمى «الإسلام السياسي» المعتدل بوصفه رأس حربة في إعادة ترتيب المنطقة، فوقف إلى جانب «الإخوان المسلمين» من جهة؛ ووقع الاتفاق النووي مع إيران، من جهة أخرى، أملاً في وصول ما عدّه التيار المعتدل فيها إلى سدة الحكم.

إدارتان استثنائيتان من دون شك، إلا إنهما بقيتا تحت مظلة المؤسسات والنظام، ولم يصل بهما الحد إلى تأزيم النموذج الأميركي للديمقراطية ومفاهيمها والتشكيك في النظام والانقلاب على الثوابت كما فعل ترمب، حتى وصل به الأمر في النهاية إلى الإعلان عن عدم ثقته بالقضاء ولا بالمؤسسات التي تشرف على الانتخابات، وقال على الملأ: «لن أسلم السلطة» إذا شعر بأي تزوير. الكلام الذي نطق به ترمب نسمعه من حكام دول الاستبداد ولا ينسجم مع القيم الأميركية ولا مع المؤسسات ولا مع العقل الأميركي، وهذا ما دفع بايدن إلى وصف مواجهته مع ترمب بأنها «معركة من أجل روح الأمة».

وصفت هذه الانتخابات بالتاريخية والاستثنائية لأنها تخطت التنافس بين شخصين أو عقيدتين أو توجهين، لتصبح تنافساً بين من يريد الإبقاء على النموذج الأميركي للديمقراطية القائم على قيم ومبادئ الآباء المؤسسين والذي خلق ما نعرفه جميعاً بـ«الحلم الأميركي»، وبين من قد يجهض هذا النموذج ويغير نظرة أميركا نفسها إلى تاريخها.

الانتخابات لم تفرز أصواتاً فحسب؛ بل أفرزت أيضاً حقائق عدة لا يمكن تجاهلها.

الحقيقة الأولى أن الديمقراطية متجذّرة في الولايات المتحدة وقادرة على مداواة نفسها، وقد ظهر ذلك جلياً بأعداد الناخبين الذين صوتوا، والتي بزّت ما عرفته البلاد على مدى تاريخها. فهذا الأمر يظهر حدة الاستقطاب والتجاذب القائم، لكنه يظهر أيضاً انخراط المجتمع الأميركي في صناعة القرار وقدرته على اجتراع الدواء لأي خلل قد يصيب نظامه.

والحقيقة الثانية أن سيادة القانون جزء من الوعي الأميركي، بحيث إن التوقعات بحدوث اضطرابات أمنية يوم الانتخاب وأيام فرز الأصوات وإعلان النتائج ووصلت ببعضهم إلى حدّ الحديث عن حرب أهلية وشيكة، لم تكن سوى فقاعات في الهواء؛ فالبلد من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه لم يشهد احتجاجات تخرج عن المألوف، وحافظت على سلميتها في بلد يشرّع حمل السلاح.

الحقيقة الثالثة أن ولاء الأميركيين إبان الأزمات للأمة، ظهّره تأييد رموز جمهوريين لبايدن بوصفه خياراً للوحدة والتعافي.

الحقيقة الرابعة أن الانقسام الحادث في المجتمع الأميركي سياسي بامتياز؛ وليس عنصرياً بين الملونين والمهاجرين وأبناء العرق الأبيض كما جرى التسويق له، والدليل أن ترمب فاز بحصة الأسد من أصوات الـ«هيسبانك» (اللاتينو) والمهاجرين من كوبا ومن دول أخرى ومن الأقليات العربية والمسلمة، وجزء لا بأس به من أصوات الأميركيين من أصول أفريقية، رغم الاضطرابات العرقية التي شهدتها السنة الأخيرة من ولايته. هذا طبعاً لا ينفي أن للعنصرية في أميركا كما التشدد الديني من يؤمن بهما، وأن شريحة كبيرة من مؤيدي ترمب يدعمونه لما يمثله من تفوق للعنصر الأبيض أو لتأييده المسيحيين الإنجيليين المتشددين. ولكن، هناك أيضاً أكثرية تؤيده لأسباب اقتصادية أو رفضاً للنخبة السياسية الأميركية، لا سيما في واشنطن، أو لأنه ضد الـ«Establishment» أو «الدولة العميقة»، أو خوفاً مما سُمّيت «اشتراكية ويسارية» منافسه.

الحقيقة الخامسة أن ترمب؛ أحببناه أم لا، شكّل ظاهرة شعبية عارمة نترك للتاريخ الحكم عليها فيما إذا كانت هي التي أحدثت تغييراً في المجتمع الأميركي أم إنها جاءت لتعبر عن تغيير حدث وتخرجه هي إلى العلن. فهذه الانتخابات كانت بين مؤيدي ترمب المفعمين بالحماسة ومعارضيه الكارهين لشخصه. إن نجاح بايدن جاء إلى حد ما بأصوات من يريدون إخراج ترمب من البيت الأبيض، أكثر من رغبتهم في رؤيته رئيساً. الأكيد أن أميركا تغيرت خلال ولاية ترمب، ومن المرجح أن تستمر ظاهرة «الترمبية» حتى بعد خروجه من البيت الأبيض بما قد يهدد وحدة الحزب الجمهوري.

أما الحقيقة السادسة؛ فهي فشل شركات استطلاع الرأي التي روجت لأرقام وسيناريوهات جاءت بعيدة عن الواقع حتى ضمن هامش الخطأ المقبول، رغم إعلانها اعتماد وسائل جديدة غير تلك التي اعتمدتها عام 2016.

وهذا ما يوصلنا إلى الحقيقة السابعة المتعلقة بالذيول السلبية لدور وسائل الإعلام حين تكون منحازة. فبغض النظر عن مواقف ترمب العدائية تجاه الإعلام ومنصات التواصل العملاقة، كان أغلبها منحازاً ضده وأعطى انطباعات نقلت صورة مغايرة للواقع الشعبي. فالطريقة التي صُوّرت بها تبعات حادثة جورج فلويد أو «عنصرية ترمب»، تركت انطباعاً بأن أصوات الأميركيين السود كما أصوات المهاجرين ستصب بالمطلق في مصلحة بايدن، وهذا ما لم يحدث. في المقابل، صوّر الإعلام المنحاز إلى ترمب أن نقل السفارة إلى القدس واتفاقيات التطبيع مع دول عربية و«صفقة القرن» ستمنحه أصوات اليهود، وهذا أيضاً لم يكن دقيقاً.

لا نبالغ إذا قلنا إن معركة الانتخابات الأميركية كانت معركة لاستعادة روحيّة أميركا. ولكن مجرد وصفها بـ«المعركة» وليس بـ«التنافس» يحزّ في النفس؛ لأنه يشكل طعناً للحلم الأميركي ولكل القيم التي قامت عليها البلاد، لا سيما مبدأ الانصهار. فالتشظي المجتمعي لا يمكن إنكاره، وحالة الارتباك لا يمكن تجاهلها، والانقسام الذي ظهر بين يسار راديكالي غير ليبرالي ويمين متطرف شعبوي لا يمكن غض النظر عنه. الأمل أن تنتصر ديمقراطية أميركا لتعود ليست «عظيمة مرة أخرى» كما يقول ترمب؛ بل قائدة أخلاقياً والأولى في المجالات الإبداعية الإنسانية كافة على عادتها، لصحتها وصحة العالم على حد سواء.

سام منسى