هل تنتقل طهران من التسهيل إلى التعقيد؟
تشكّل الاندفاعة الدولية المتجددة حيال لبنان وبزخم كبير قلقاً لإيران التي تخشى من ان يقود هذا الوضع المستجد إلى تطويق «حزب الله» المطوّق أساساً بالانهيار المالي، فكيف ستتعامل طهران مع التدويل المتمادي؟ وهل ستنتقل من التسهيل حكومياً إلى التعقيد رداً على الحركة الدولية التي يتجاوز أفقها التأليف إلى التسوية النهائية، أم تسهِّل في الأولى وتربط النزاع في الثانية؟
دخل لبنان بعد اللقاء الفاتيكاني في مرحلة جديدة عنوانها تدويل لبنان، ومن الواضح انّ العواصم المعنية مباشرة بالملف اللبناني، والتي لها تأثيرها المباشر على الواقع السياسي، وتحديداً واشنطن وباريس والرياض، تُبدي حرصاً كبيراً على التعاون مع الفاتيكان الذي وضع لبنان في صلب اهتماماته وأولوياته، وهذا ما يفسِّر خلية الأزمة الدولية الثلاثية الأميركية والفرنسية والسعودية التي نشأت في سبيل تزخيم التوجُّه الفاتيكاني ضمن حدّين أساسيين:
الحدّ الأول عنوانه منع انزلاق لبنان إلى الانفجار، لأنّ المستوى الذي بلغته الأزمة يُنذر بمخاطر كبرى، ويصعب معه إبقاء الوضع مضبوطاً، حيث انّ الأمور وصلت إلى حدّ يمكن في أي لحظة ان تنفجر اجتماعياً في أكثر من منطقة دفعة واحدة، فتخرج الأمور عن السيطرة. ولذلك، يجب تأليف الحكومة فوراً من منطلق كونها الخطوة الوحيدة القادرة على تنفيس احتقان الناس ولو جزئيّاً، والشَبك مع المجتمع الدولي برزمة إصلاحات تمهِّد لفتح باب المساعدات.
فالمجتمع الدولي وصل إلى قناعة انّ سرعة الانهيار لا يمكن وقفها وفَرملتها سوى عن طريق تأليف الحكومة، فكلمة السرّ الدولية في هذه المرحلة هي الذهاب إلى حكومة فوراً، وبالتالي كل الكلام عن انّ التأليف سيحصل في شهر أيلول قد لا يكون دقيقاً، خصوصاً ان لا استحقاقات دولية او محلية بارزة في أيلول، فيما تمّ وضع لبنان على نار حامية سعياً لإخراج الحكومة سريعاً من حَيّز التعطيل والفراغ تلبيةً للمسعى الفاتيكاني.
الحدّ الثاني عنوانه إخراج لبنان من أزمته المتمادية عن طريق الوصول إلى تسوية نهائية تعيد الاستقرار الفعلي إلى لبنان، لأنه لا يكفي وقف الانهيار، إنما يجب إخراج البلد من دائرة الحروب الساخنة والباردة إلى دائرة الدولة الطبيعية كأيّ دولة في هذا العالم، والمسعى الفاتيكاني المدعوم دولياً لن يقف او ينتهي إلّا بعد الوصول إلى هذه التسوية التي تستدعي إدخال لبنان في صلب المفاوضات الدولية مع إيران التي لن تتخلى بسهولة عن دورها العسكري والأمني من خلال «حزب الله»، خصوصاً انّ الحزب شَكّل الثمرة الأولى لثورتها، وهو من أبرز أوراقها، وتستطيع من خلاله ان تكون على تَماس مع 4 أوراق أساسية: الورقة الإسرائيلية التي تزايد فيها على الدول العربية والإسلامية، الورقة السورية كسند أساسي لحليفها بشار الأسد، الورقة السنية لتوجيه الرسائل إلى السعودية، والورقة المسيحية في سياق تحالف الأقليات في المحور الإيراني.
ومن الواضح انّ الدينامية الدولية لن تقف عند حدود تأليف الحكومة، وأيّ مراقب للوضع اللبناني يَخلص إلى استنتاج واضح بأنّ لبنان أصبح في صلب الاهتمامات الدولية، فيما تدرك طهران جيداً انّ الحراك الدولي ليس عابراً ولا تقليدياً، وانّ هدفه المستقبلي رفع نفوذها الأمني والعسكري عنه، وإذا كانت حتى اللحظة لا تتدخّل مبدئياً في عملية تأليف الحكومة التي تشكّل مصلحة لـ»حزب الله» من منطلق انّ الفوضى تُفقده مواصلة إمساكه بقرار الدولة الاستراتيجي، إلّا انّ الأسئلة التي تطرح نفسها بقوّة اليوم، هي: كيف تقرأ طهران الاندفاعة الدولية نحو لبنان؟ وكيف ستتعامل مع الواقع الدولي المستجد؟ وهل ستضع نفسها في مواجهة مباشرة مع الفاتيكان؟ وكيف ستردّ على خلية الأزمة الدولية المثلثة؟ وهل ستنتقل من تسهيل تأليف الحكومة إلى عرقلته خوفاً من أن يؤدي التأليف إلى انتقال التركيز الدولي من المرحلة الانتقالية إلى التسوية النهائية، وبالتالي تواصل عملية إلهاء هذا المجتمع ضمن حيّز الفراغ؟ وهل ستعتبر انّ الحاجة الدولية للورقة الحكومية تشكّل مناسبة من أجل ان تنتزع ثمناً مقابلاً بدلاً من أن تتنازل عن هذه الورقة مجاناً؟ وهل دخل تشكيل الحكومة ضمن الصراع الدولي مع طهران؟
لا شك انّ مسؤولية الفراغ قبل مؤتمر الفاتيكان كانت مُلقاة على المسؤولين المعنيين بتأليف الحكومة وشروطهم التعجيزية المتعلقة بمصالحهم السلطوية، وهذا ما يفسِّر المواقف الدولية المتناغمة في تحميل هؤلاء المسؤولين تَبِعات الفراغ الحكومي والانهيار بسبب سوء إدارتهم للدولة، لأنّ أزمة التأليف هي فعلاً محلية وترتبط بمصالح القوى المعنية، وتحديداً العهد المأزوم من الانهيار الحاصل، والذي سيخرج من القصر الجمهوري في وضع لا يشبه دخوله إليه بل أشبَه بخروجه منه في العام 1990، ويريد التَهيئة لمرحلة ما بعد انتهاء ولايته. وبالتالي، كل هذه الحسابات، ومن ضمنها الانتخابات الرئاسية، تدخل ضمن توازنات الحكومة العتيدة. ولذلك، العقدة الأساسية محلية بامتياز، ولكن هل ستنتقل هذه العقدة من الحيّز المحلي إلى الإيراني على أثر الاندفاعة الدولية؟
وفي الإجابة هناك وجهة نظر تعتبر انّ طهران ستسهِّل المرحلة الأولى التي تتعلّق بتأليف الحكومة كَون التأليف يشكّل مصلحة لـ»حزب الله» تبدأ من إمساكه بقرار الدولة ولا تنتهي بتبريد الوضع داخل بيئته، ولكنها ستعرقل المرحلة الثانية المرتبطة بالتسوية النهائية لأنّ دورها في لبنان يرتبط بدورها على مستوى المنطقة، وهذا الدور لا يتجزّأ، كما انها لن تتنازل عن الورقة اللبنانية سوى ضمن تسوية كبرى، الأمر الذي ما زال مستبعداً حتى اللحظة.
وتعتبر وجهة النظر نفسها انّ طهران ستفصل بين تشكيل الحكومة التي تشكّل مصلحة لمشروعها في لبنان، وتجنّبها توجيه رسالة سلبية إلى الفاتيكان والمجتمع الدولي في هذا التوقيت وفي العنوان الحكومي بالذات، وبين عنوان التسوية القادرة على ربط النزاع وشد الحبال مع هذا العنوان عندما يحين أوانه، فتكون بذلك قد مرّرت العنوان الحكومي كرسالة حسن نيّات، وعندما يحين أوان التسوية النهائية تضع شروطها وسقوفها، خصوصاً انها من اللاعبين الأساسيين في لبنان.
ولكن هناك في المقابل وجهة نظر أخرى ترى انّ طهران لم تعد في وارد التساهل مع تشكيل الحكومة من منطلق انّ حصول هذا التأليف بزخم دولي سيُتابع بالزخم نفسه وستَليه خطوات إصلاحية تحدّ من نفوذ «حزب الله» ودوره، كما انّ هذا الزخم لن يقف عند حدود الحكومة والإصلاحات، إنما سيمتد إلى الانتخابات النيابية ومن ثم الرئاسية. وبالتالي، المصلحة الإيرانية تكمن في ضرب الدينامية الدولية في مهدها وعدم إفساح المجال أمامها بأن تشقّ طريقها ولو من الباب الحكومي، وأيّ ربط للنزاع يجب أن يبدأ من تأليف الحكومة وليس من التسوية النهائية قطعاً للطريق أمام تحقيق المجتمع الدولي فوزاً بالنقاط على طهران في أكثر من جانب.
فأيّ وجهة نظر ستشقّ طريقها على حساب الأخرى؟ لا شك انّ الأيام المقبلة حاسمة لترجيح كفة هذه الوجهة أو تلك، فإمّا أن تتألف الحكومة ويرحّل الخلاف حول مستقبل لبنان إلى مرحلة لاحقة، وإمّا ان يُربط التأليف بالحل النهائي وتدخل الحكومة في صميم الصراع الدولي مع طهران.
شارل جبور