إلى وليد جنبلاط: مشروع "حزب الله" لا يقبل الشراكة ولا التنوّع
أثار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط مسألة جوهرية تستحقّ النقاش واستخلاص العبر، وذلك عندما سأل «بكل صراحة: هل يمكن التوفيق بين مشروع المقاومة واستفراده بالقرارات، وهيبة الدولة في الحفاظ على الحدّ الأدنى من السيادة على بعض من مقدراتها، بعد غزوة المازوت وتبعاته. وهل هذه الحكومة لتطرح رؤية إقتصادية جديدة بدل مؤتمر «Cedre» وأسطوانة البنى التحتية؟».
وأضاف في تغريدة نشرها بتاريخ 23 أيلول 2021:»وقبل الردود المتشنجة والعصبية هل يمكن لأصحاب الحلّ والربط التفكير بما طرحتـُه أم كُتب علينا أن نتلقى التعليمات دون نقاش وأن نتـّبع الخطط بدون جدوى؟ وهل مسموح النقاش؟».
المسألة الأولى التي أثارها جنبلاط تكشف قلقه من الانهيار الكامل للمؤسسات الدستورية وبروز «حزب الله» كقوة طاغية فوق الدولة، لم يعد يراعي حتى الشكليات التي كان يعتمدها في مراحل سابقة لإظهار «عقلانيته» وعدم رغبته في فرض سياساته على اللبنانيين، كما سبق للأمين العام للحزب حسن نصرالله أن كرّر مراراً بأنّ حزبه لا يحكم لبنان.
الواضح أنّ الأحزاب التي اختارت التسوية مع «حزب الله» والتجاور معه في الحكومات بدأت تشعر بثقل المرحلة الانتقالية التي يقود الحزب البلادَ إليها، وهي مرحلة تجاوز الدولة التدريجي، قبل تفكيكها وإعادة بنائها وفق مفهوم دولة الولي الفقيه.
هذه المقاربة لا تتعلّق فقط بالجانب الأيديولوجي للصراع، بل بكلّ تفصيل من تفاصيل حركة «حزب الله» المتعلّقة بموقفه من الدولة، بعد أن دخلنا مرحلة «الظهور» بالقوة الكاملة، وكان لهذا التطور مؤشرات عدة أهمها:
مؤشّر «الظهور» على القضاء:
شكّلت الغزوة التي قام بها مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في «حزب الله» وفيق صفا إلى قصر العدل والمحكمة العسكرية، واقتحامه معقل القضاء، مواكَباً بمرافقة مضخّمة طوّقت عملياً هاتين المؤسّستين، وظهرت صور بعض المرافقين المدجّجين بالسلاح، وتلك رسالة في الشكل والمضمون بأنّ المسألة أبعد من تهديد يوجّه إلى قاضٍ، فالتهديد يمكن إيصاله بوسائل أخرى، لكنّ المطلوب إفهام القضاء بأنّ السلطة العليا هي للحزب، وأنّ الأمر له في رسم حدود القضاة في مقاربة الملفات، وأنّه خطٌ أحمر «مقدّس»، ممنوع المسّ به، وممنوع أن تصل أي تحقيقات إلى اتهامه أو الإشارة إليه مطلقاً، بل يجب أن يتجه نحو خصومه، كما هو الحال مع نيترات البقاع التي طلب صفا اعتبارها دليل إدانة مسبق للقوات اللبنانية.
هذا يشمل تحقيقات في جريمة تفجير مرفأ بيروت، وسائر الجرائم، التي يجب أن تبقى معلومة بالقناعات، وممنوعة بالقضاء من أن تُكشف حقائقها، كما حصل في تفجيري مسجدي السلام والتقوى عللا سبيل المثال لا الحصر.
الظهور الاقتصادي:
اتخذ «حزب الله» سلسلة خطوات لإتمام كيانه الاقتصادي والاجتماعي، كان أبرزها فرض مصرفه «المركزي» الخاص، المتمثل في «القرض الحسن» ونشر ماكينات السحب الآلية في شوارع الضاحية الجنوبية، ثمّ إطلاق سلسلة تعاونيات حملت اسم «تعاونيات النور»، وصولاً إلى تجاوز الدولة في استحضار النفط الإيراني، عبر معابره الخاصة، وبيع نفطه في سوقٍ موازٍ ليس للمؤسسات الرسمية أيّ سلطة عليه، وبدء الخطوات العملية لإنشاء مصفاة للنفط في الجنوب ومعمل للكهرباء، مع الاستعداد لفرض قيام شركات إيرانية بالتنقيب عن النفط جنوباً على قاعدة أنّ هذا النفط هو ملك أهل الجنوب (الشيعة).
الظهور الاجتماعي
يتناسى الكثيرون أنّ مشروع «حزب الله» هو مشروع احتلاليّ إحلالي، يقوم على قواعد التغيير السكاني وإحلال المجموعات والعائلات والعناصر المرتبطة بنظام الولي الفقيه مكان أهل البلد، تماماً كما فعل في العراق وسوريا، حيث انتشرت الحسينيات والمستوطنات الإيرانية لتفتيت وحدة البلدين، ثم القيام بحملات القتل والتدمير وصولاً إلى تهجير سكان البلد وتحويلهم إلى لاجئين داخل وخارج الحدود.
في لبنان، ليس بإمكان الحزب أن يشنّ حروب إبادة كما فعل في سوريا والعراق واليمن، لكنّه يلجأ إلى أساليب أخرى تؤدي إلى النتيجة نفسها، وقد جاء تفجير المرفأ ليضع الشبهات على الحزب، وعلى هذه الخلفية جاءت «غزوة قصر العدل»، كما يأتي في هذا السياق ضرب القطاع الصحي والاستشفائي وإخفاء الدواء من الأسواق، وهي ممارسات لا يمكن تصنيفها إلاّ في إطار قتل الناس، هذا بالإضافة إلى أنّ الانهيار الكارثي أدّى حسب أرقام أوليّة إلى تهجير ما يقارب المائة ألف لبناني.
الظهور الأمني الاستراتيجي
لا يتعلّق هذا العنوان بالتفوّق العسكري المعروف للحزب في لبنان، بل بمسار جديد يخطتّه لفرض سيطرته الكاملة والوحيدة على المناطق الشيعية، وفي هذا الإطار يمكن فهم خطوة سحب الجيش اللبناني من الضاحية الجنوبية، تحت ذريعة تخفيف الأعباء عن المؤسسة العسكرية، رغم أنّ قيادة الجيش لم تطلب يوماً تقليص مهماتها بسبب الضغوط الاقتصادية التي تكابدها.
يمكن القول إنّ ما جرى كان قراراً سياسياً متفاهَماً عليه بين الحزب والرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل، وجرى إسقاطه على وزارة الدفاع كقرار سياسي، ألزم الجيش بالتنفيذ، تاركاً تداعيات كبيرة على الوضع في بيروت وضواحيها.
من الناحية العملية أصبحت الضاحية في القبضة الأمنية المنفردة لـ»حزب الله» وبات انتشار الجيش خارجها، مما يطرح تساؤلات جدّية حول كيفية ضبط الأمن في أحيائها، وهي التي تشهد الكثير من الأحداث والاشتباكات، فضلاً عن بقاء شبح الإرهاب حائماً، حسب دعاية الحزب نفسه.
من جهة أخرى، فإنّ غياب الجيش سيجعل المناطق المسيحية، وتحديداً عين الرمانة والأشرفية، مفتوحة على تلقّي جحافل المجموعات المسلحة التي طالما حاولت اقتحام العمق المسيحي في بيروت، وكان وجود الجيش حائلاً دون وقوع تلك الفتنة في مراحل عدة سابقاً، فهي هذا الفراغ مطلوب الآن لفرض وقائع ميدانية جديدة؟
ما يقال عن الموقف من الجيش في الضاحية، يصحّ أيضاً عن الوضع في الجنوب حيث يعلم الجميع كيف جرى تفريغ القرار 1701 من مضمونه لتعود المناطق الجنوبية مرتعاً لاستعراضات الحزب العسكرية وأقرانه من الميليشيات الإيرانية في المنطقة.
الظهور السياسي
يفرض «حزب الله» عناوينه على الحياة السياسية ، ولعل أبرز وجوه هذا الفرض، هو إصراره على تشكيل حكومة سياسية، وقد استطاع استهلاك أشهر طوال ورئيسين مكلفين، ودفَن قواعد المبادرة الفرنسية، وجاء بحكومة بمواصفاته التي فرضها على الجميع.
الأخطر من كلّ هذا هو أنّ الحزب بدأ مسيرة الإبحار بلبنان في قلب المحور الإيراني، بعد أن تسبّب عن سبق التصميم والإصرار في قطع وشائجه بالعالم العربي وبالمجتمع الدولي، وهذا ما سيؤدي إلى تغيير هويته بالكامل.
مشكلة خصوم «حزب الله» أنّهم يعتقدون أنّ باستطاعتهم تثبيت مشروعه عند حدود المكتسبات التي فرضها عليهم، بعد كلّ تسوية تأتي نتيجة استخدامه للسلاح والعنف، وهذا تصوّر خاطئ أثبتت الوقائع أنّه لا يمكن الركون إليه لأنّه قائم على القضم والابتلاع ثمّ الهضم، ثم العودة إلى القضم مجدّداً.
في جواب على سؤال وليد جنبلاط الذي يتعرّض لحملات تهديد من إعلام الحزب، وجميع من يسأل سؤاله: إنّ مشروع «حزب الله» لا يقبل المواءمة بين الدولة والدويلة، كما أنّه لا يقبل التنوّع وما يجري الآن هو أنّه يتخلّص تدريجياً من جميع العوائق قبل أن يعلن مشروعه الذي لم يحد عنه يوماً.
أحمد الأيوبي- اللواء