هل الحلّ بغالب ومغلوب؟

هل الحلّ بغالب ومغلوب؟

خطابان في أقل من 24 ساعة يختصران جوهر الخلاف اللبناني حول دور لبنان ومستقبله: الأول لأمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، والثاني لبطريرك الموارنة بشارة الراعي.



الخطاب الأول يدعو إلى «التصويت في الانتخابات من أجل حماية المقاومة. فالمقاومة التي تحميكم بحاجة إلى تحصينها سياسياً في البرلمان والمؤسسات. يجب حماية المقاومة من خلال الانتخابات بغض النظر عن الأكثرية، ويهمّنا أن يكون أصدقاؤنا في البرلمان كثراً لتشكيل دفاع عن المقاومة».


الخطاب الثاني يدعو إلى «استكمال تطبيق اتفاق الطائف، والسعي إلى تطبيق قرارات مجلس الأمن من أجل تحقيق سيادة لبنان على كامل أراضيه، وإذا استمرّ عجزُ الدولةِ عن ذلك، فلا بدَّ من الاستعانةِ بالأممِ المتّحدةِ لعقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ يَضمَنُ تنفيذَ الحلولِ وسلامةَ لبنان. واعتمادُ نظام الحِياد الإيجابيّ أساسًا في علاقاتِنا الخارجيّة، لأنّه ضمانُ وِحدة لبنان واستقلالِه وسيادتِه. فالحيادُ الذي نطالب به هو أصلًا عنصرٌ بنيويٌّ في تكوينِ لبنان وملازمٌ لموقِعَه الجغرافيَّ وتراثِه السلمي».


الخطاب الأول هو نقيض الخطاب الثاني، لأنّ استمرار المقاومة يعني الاستمرار في عدم تطبيق الطائف والحياد والقرارات الدولية. والخطاب الأول يريد ليس فقط استمرار واقع الحال، إنما تحويل الانتخابات النيابية إلى محطة تساهم في مزيد من تحصينه، فيما الخطاب الثاني يريد القطع مع هذا الواقع والدفع نحو إنهاء التعايش بين دولة صوَريِّة وبين مقاومة تنوب عنها في القضايا الاستراتيجية، وذلك من أجل الوصول إلى دولة وسيادة.



ولا يمكن الكلام عن أي مساحة مشتركة بين الخطابين: فالأول يتمسّك بخيار المقاومة ويريد تعزيز مقومات حمايتها، والثاني يريد تطبيق ما حالت المقاومة نفسها دون تطبيقه، وطالما المقاومة باقية فلا إمكانية لتطبيق الدستور والحياد والقرارات الدولية، وفي حال القدرة على تطبيق هذه الثلاثية ينتفي تلقائيًا وجود المقاومة.


ولا أمل طبعًا بحوار يقلِّص الهوة بين الخطابين، لأنّ لا مجال لحلول وسط بينهما، فإما دولة وحياد وشرعية دولية، وإما مقاومة وانحياز وعزلة، خصوصًا انّ الحوار قد جُرِّب أساسًا ولم يؤدِ إلى نتيجة، ولن يؤدي إلى نتيجة، وفي ظل خيارات متناقضة بهذا الحجم لا تنتهي المواجهة سوى في غالب ومغلوب، وإلّا فالمواجهة مستمرة.


ويدرك صاحب الخطاب الأول أنّ دخول صاحب الخطاب الثاني على خط المواجهة كفيل، ولو بعد حين، بترجيح الكفّة والدفّة، وذلك على غرار إخراج الجيش السوري من لبنان، والذي حوّلته بكركي إلى هدف وقضية، فاحتضنت من يحمل هذه القضية، وجال بطريركها على عواصم القرار لتبنّي هذا الهدف، فتحقّق ما لم يكن في الحسبان وربما الأحلام.


وعندما تجاوزت الأزمة كل الحدود والسقوف ووصل لبنان إلى الهاوية والقعر وسقط أي أمل في الإنقاذ وتحولّت الهجرة إلى هدف والخشية أصبحت على الهوية والكيان والوجود، رفع البطريرك عصاه مطالبًا بالحياد والمؤتمر الدولي لتطبيق الدستور والقرارات الدولية، وأظهر انّه مثابر على هذا الطرح، فلم يتراجع قيد أنملة، إنما أصرّ على التذكير بطرحه ورفع الصوت في الإعلام وداخل غرف الصرح وفي الأروقة الديبلوماسية.



ونقطة قوة الخطاب الأول انّه يتكئ على منطق الغلبة والسلاح وعدم القدرة على انتزاعه، وعلى طهران التي تدعمه من دون حدود وسقوف. ولكن، نقطة ضعف هذا الخطاب انّه قاد لبنان إلى عدم الاستقرار والوطن إلى جهنّم والدولة إلى الفشل والمواطن إلى العوز، ولا يستطيع قيادة بلد ولا إخراج البلد من أزمته، وهو مشروع انقسامي قائم على القوة والفرض.


ونقطة قوة الخطاب الثاني انّه يتكئ على منطق الحق والشرعية والدستور والقانون والسيادة والاستقرار والازدهار، ويشكّل المساحة المشتركة التي يفترض ان تجتمع حولها كل الناس. ولكن نقطة ضعفه انّه غير قادر على ترجمة قناعاته وتوجّهاته بقوته الذاتية على أرض الواقع.


وعلى غرار المواجهة مع المقاومة الفلسطينية والجيش السوري، فلا أنصاف حلول، والتعايش مهما طال أو قصر، سيقود إلى مواجهة تؤدي إلى غالب ومغلوب، وقد غلب النظام السوري على مدى 15 عاماً، ولكنه عاد وانغلب، والأمر نفسه ينطبق على «حزب الله» الذي يشبه وضع المقاومة الفلسطينية لا الجيش السوري، لأنّه لم يستطع ان يحكُم ويتحكّم منفردًا، إنما اضطر إلى التعايش القسري مع فريق 14 آذار على نسق تعايش منظمة التحرير مع الجبهة اللبنانية، فتقدّم الحزب حينًا وتراجع أحيانًا، ولم يتمكّن في أي مرة من المرات من ان يحسم الوضع لمصلحته.



والوضع القائم والمستمر منذ العام 2005 سيصل في لحظة من اللحظات إلى الحائط المسدود ونقطة اللاعودة، وستختلف هذه اللحظة عن أحداث أيار 2008 واتفاق الدوحة وربط النزاع مع حكومة الرئيس تمام سلام والتسوية الرئاسية مع العهد الحالي وحكومات الإختصاصيين غير المستقلين اليوم. والاختلاف يكمن في انّ الأوضاع وصلت إلى النقطة التي لم يعد مبدئيًا بالإمكان معها إبرام تسوية جزئية، بسبب الانهيار المالي الذي لا يتعالج سوى عن طريق إدارة داخلية مختلفة وانفتاح خارجي ومتطلبات هذا الخارج بكفّ ضرر «حزب الله» على مستوى المنطقة.


ولا حاجة للتذكير بأنّ صوت الكنيسة يتردّد في أكثر من عاصمة غربية وعربية ويلقى الصدى المطلوب داخل عاصمة الكثلكة، من زاوية انّ حالة عدم الاستقرار المفتوحة ستؤدي إلى تفريغ آخر مساحة للمسيحيين في هذا الشرق، خصوصًا بعد انزلاق لبنان إلى الهاوية وفشل الدولة والموقف الخليجي، ما يعني انّ الأمور استوت بانتظار المومنتم الخارجي وملاقاته داخليًا بدءًا من الكنيسة وفي ظلّ جهوزية سياسية وانتظار شعبي للتخلُّص من الواقع المأسوي الذي وصل إليه.


وأمام انسداد الأفق السياسي في لبنان، وغياب أي احتمال للإنقاذ، وإصرار «حزب الله» على المقاومة، وتمسُّك بكركي بالمؤتمر الدولي لتنفيذ الطائف والقرارات الدولية، واستحالة الوصول إلى تسوية داخلية لقيام الدولة، ستتطوّر الأمور فصولّا باتجاه تعبئة شعبية تصل إلى حدّها الأقصى مع الانتخابات النيابية وما بعدها من جهة، وتبلور أكثر فأكثر ظروف انعقاد مؤتمر دولي من أجل لبنان من جهة أخرى. والبطريرك الراعي كان شديد الوضوح بقوله: «إذا استمرّ عجزُ الدولة، فلا بدَّ من الاستعانةِ بالأممِ المتّحدةِ لعقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ يَضمَنُ تنفيذَ الحلولِ وسلامةَ لبنان»، وظروف هذا المؤتمر تقترب من الإنضاج بسبب إنّ الانهيار والانسداد والوضع المقفل، أو تبنّي الدول الخليجية للقضية اللبنانية بورقة «عربية وخليجية ودولية»، أو الإصرار البطريركي على هذا التوجّه مع كل ما يمثله من عمق فاتيكاني وتأثير دولي.



والفارق الكبير والأساسي بين اليوم ولحظة العام 2005، انّه لا يوجد أي فريق داخلي على استعداد للتوسُّط مع المجتمع الدولي من أجل مثلًا تعليق تنفيذ القرار 1559، وعدا عن انّ أحدًا ليس في هذا الوارد، إنما هناك على العكس مطالبات تتصدّرها الكنيسة المارونية بضرورة تطبيق القرارات الدولية.

وليس غريبّا على اللبنانيين متابعتهم لخطابيين من مرجعيتين التناقض بينهما في العمق والجوهر والأساسيات، وهذا أمر مؤسف للغاية في هذا الزمن والعصر، فيما الخلاف دائمًا هو نفسه بين من يريد دولة طبيعية كأي دولة في العالم، عقيدتها الوحيدة هي الاستقرار ونمط العيش والحداثة والإنسان، وبين من لا يؤمن بدول وحدود وكيانات، ويؤمن فقط بالسلاح والعنف والقوة وعدم الاستقرار.

شارل جبور