ماذا يربح ويخسر لبنان إذا اعتمد الخط 23 بدلاً من الخط 29 كحدود؟
يأخذ التناقض في موقف لبنان الرسمي حول ملف ترسيم الحدود البحرية، بين الرسالة التي أرسلتها الحكومة اللبنانية في 28 كانون الثاني الفائت الى الأمم المتحدة، التي اعترفت ضمناً بأنّ "حقل كاريش" يقع ضمن المنطقة المتنازع عليها أي بين الخطين 23 و29، وبين موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الأخير الذي أعلن فيه أنّ الخط 23 هو حدود لبنان البحرية وليس الخط 29، جدلاً واسعاً بين السياسيين والمُفاوضين والاقتصاديين والخبراء والقانونيين والناشطين وسواهم. فإذا كان الخط 23 هو حدود لبنان البحرية، فلماذا طرح الخط 29 بواسطة الوفد اللبناني العسكري التقني المفاوض باسمه على طاولة المفاوضات غير المباشرة بين لبنان والعدو الإسرائيلي في حضور الوسيط الأميركي جون ديروشيه آنذاك والتي جرت بين 14 تشرين الأول 2020 و4 أيّار 2021 على خمس جولات متقطّعة، وتمسّك به؟ ولماذا تخطّى لبنان سبب إرجاء الجولة السادسة من المفاوضات التي كان يُفترض أن تُعقد في 5 أيّار من العام الماضي الى أجلٍ غير محدّد ومسمّى، والذي تمثّل بوضع العدوالإسرائيلي "شروطاً مسبقة لناحية حصر التفاوض على مساحة الـ 860 كلم2"، بعد أن كان رفض هذه الشروط؟! ما يمكن قوله اليوم إنّ السجال الداخلي الكبير حول هذين الموقفين المتناقضين قد بدأ، وقد يتخذ منحى تصعيدياً، ولا أحد يعلم متى وكيف سينتهي، هل قبل أم بعد الزيارة الثالثة المرتقبة في آذار المقبل للوسيط الأميركي في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية آموس هوكشتاين؟!
هذا التناقض الملتبس في الموقف الرسمي، جعل الكثيرين يتّهمون المسؤولين اللبنانيين بالتراجع عن المطالبة بحقوق لبنان البحرية الفعلية، والتي حدّدها الوفد العسكري التقني بتوصيات من الدولة اللبنانية بالخط 29، كما بنوع من التنازل عن هذه الحقوق، وخصوصاً أنّ الوفد اللبناني العسكري على طاولة الناقورة في حضور الوسيط الأميركي حدّد المنطقة المتنازع عليها بين النقطتين 23 و29 وليس بين الخطين 1 و23 على ما يريد العدو الإسرائيلي. هذه المساحة البالغة 860 كلم2 التي كانت منذ سنوات عديدة هي المنطقة المتنازع عليها دون سواها، أي منذ أيّام السفير الأميركي فريديريك هوف الذي قاد المفاوضات بين عامي 2010 و2012، واقترح في نهايتها تقسيم هذه المساحة الى نصفين زائد أكثر الى لبنان، أي الى خط شبه وسطي يمكن أن يكون "الخط 13"، أو ما يُسمّى بـ "خط هوف" بحيث يحصل لبنان على أكثر من 55% من هذه المساحة، فيما ينال "الإسرائيلي" 45% منها، غير أنّ هذا الاقتراح جرى رفضه لأسباب برّرها كلّ طرف في حينه.
فماذا تعني اليوم العودة الى الخط 23؟
أوساط ديبلوماسية مراقبة أكّدت أنّ الخط 23 ، بغض النظر عن عدم قانونيته وعدم استناده الى الحجج القويّة المستمدّة من قانون البحار والاتفاقيات الدولية والخرائط، أي خلافاً لما هو عليه الخط 29، يعيد لبنان الى 12 سنة الى الوراء، أي الى التفاوض مجدّداً على المثلث البحري بمساحة 883 كلم2، كما حدّدها هوف، أو 860 كلم2، على ما هو متداول. كذلك فإنّ رفع لبنان رسالة الى الأمم المتحدة تشير الى أنّ "حقل كاريش" يقع ضمن المنطقة المتنازع عليها (أي بين الخطين 23 و29) والطلب من مجلس الأمن التأكّد من هذا الأمر كونه يهدد الأمن والسلم الدوليين، ومن ثمّ الحديث عن أنّ الخط الحدودي للبنان هو الخط 23، هو موقف متناقض قد يبني عليه العدو الإسرائيلي لإعادة تكرار ما سبق وأن قاله بأنّ "لبنان غيّر رأيه 7 مرّات"، خلال عملية التفاوض غير المباشرة... فيما اعتراف لبنان بأنّ حدوده البحرية تنتهي عند الخط 23، فلا يعني أنّه سيحصل على هذا الخط، وخصوصاً أنّ التفاوض لا يعطي أي جهة مفاوِضة نسبة 100 في المئة ممّا تطالب عليه، وإن كان سيحاول ذلك من أجل ضمان الجزء الأكبر من "حقل قانا" وجزء من البلوك 72 "الإسرائيلي". أمّا العدو الذي سبق وأن رفض "خط هوف" الوسطي (أو الخط 13) ويتمسّك بالخط 1، فكيف سيقبل اليوم أن يعطي لبنان الخط 23 ومقابل ماذا؟
أمّا في حال وافق "الإسرائيلي" اليوم على الاعتراف بأنّ الخط 23 هو حدود لبنان البحرية، فهذا يعني أنّه يقبل ليس فقط تحييد "حقل كاريش" عن المنطقة المتنازع عليها، والتي حدّدها هوكشتاين خلال زيارته الأخيرة للبنان بين الخطّين 1 و23، كونهما خطّين مسجّلين في الأمم المتحدة، من قبل لبنان كما من "الإسرائيلي"، كلّ على حدة، إنّما بجعل جزء من "حقل قانا" من حقّه لأنّه يتخطّى الخط 23. وهذه "الموافقة الإسرائيلية" على الخط 23 للبنان تُحرّر "حقل كاريش" وتجعل الشركات الدولية قادرة على استكمال أعمالها فيه، فيما يصبح القسم الجنوبي من "حقل قانا" لقمة سائغة سهلة بالنسبة لـ "الإسرائيلي". وهذا يختلف عن المعادلة التي كان أوحى بها الوسيط الأميركي سابقاً بأنّ "حقل كاريش لهم، وحقل قانا لكم".
غير أنّ الأوساط نفسها لفتت الى أنّ تحديد الخط من قبل طرف واحد من الطرفين المتنازعين لا يعني بالضرورة أنّه الخط الفعلي للحدود، بل لا بدّ من التفاوض والتنازل من قبل الجانبين للتوافق على خط وسطي في المنطقة المتنازع عليها والتي يجب الاتفاق على تحديدها قبل التفاوض على تقاسمها. وفي حالة المثلث البحري بمساحة 860 كلم2، سبق للسفير هوف أن اقترح تقسيمه وإعطاء المساحة الكبرى للبنان، وقد جرى رفض هذا الأمر من قبل المسؤولين في كلا الطرفين، فبماذا تنفع العودة الى هذا الخط؟!
وتؤكّد الأوساط أنّ هذا ما يفسّر ما عرضه هوكشتاين على المسؤولين اللبنانيين الذين رفضوا "خط هوف" سابقاً، ما يجعله لا يمكنه العودة إليه، بأنّ يتنازلوا عن الخط 29 رغم أحقيّته، مقابل أن يُقنع "الإسرائيلي" بالموافقة على الخط 23، الذي يحرّر لهذا الأخير "حقل كاريش" ويحقّق له مكاسب في "حقل قانا". وهذه صفقة مربحة لم يكن يحلم بها، لا سيما بعد اكتشاف هذين الحقلين في المنطقة الحدودية. وأفادت الاوساط بأنّه لا تزال هناك أمور تجري في كواليس التفاوض بشأن "التنازل" من قبل الجانبين من الأفضل عدم التطرّق إليها.
ويمكن القول انّه في حال لم يوافق العدو الإسرائيلي على الخط 23، وقَبِل التراجع ضمن المنطقة المتنازع عليها، الى أي خط آخر مثل الخط 11 أو 16، على سبيل المثال، بدلاً من الخط 1 الذي يتمسّك به، للإيحاء بأنّه قد تنازل عمّا يسمّيه "حقوقه السيادية"، فإنّه سيكون رابحاً في كلتا الحالتين، كونه سيحصل الى جانب "كاريش" كاملاً على جزء من "حقل قانا". كذلك فبمجرّد العودة الى طاولة الناقورة وقبول لبنان، على ما يريد الجانبان الأميركي و"الإسرائيلي"، التفاوض على منطقة النزاع "السابقة" (بين النقطتين 1 و23)، فهذا يعني أنّ هذين الطرفين قد سجّلا انتصاراً على لبنان، الذي كان وفق الدراسة البريطانية والوثائق والمستندات والخرائط التي يملكها، ومن ضمنها "خريطة الخط الأحمر الإسرائيلية"، قد تخطّى هذه المنطقة، وانتقل الى منطقة نزاع جديدة موسّعة بين النقطتين 23 و29، تعطي لبنان مساحة أوسع في المنطقة الإقتصادية الخالصة محدّدة بـ 2290 كلم2 (فيما يحدّدها البعض بـ 2430 كلم2). ويكون لبنان قد خسر بذلك أكثر من 10 سنوات من عدم الاستفادة من ثروته النفطية، في الوقت الذي وصل فيه العدو الإسرائيلي الى البيع والإنتاج والى مدّ الأنابيب البحرية لتمرير الغاز الى دول العالم.
يبقى السؤال: في حال رفض "الإسرائيلي" تقسيم منطقة النزاع السابقة، على ما كان موقفه أيّام هوف، كما رفض الاعتراف بأنّ حدود لبنان البحرية هي الخط 23، وتمسّك بالخط 1 الذي يعتبره خطّه الحدودي، فماذا يحصل عندئذ؟ تجيب الأوساط عينها بأنّ هذا يعني أنّ نصف "حقل قانا" بالتمام والكمال سيعتبره "الإسرائيلي" ملكاً له، فضلاً عن جزء كبير من البلوك 8 الذي لا أحد يعلم بعد ما إذا كان يحوي آباراً نفطية وأين تقع تحديداً، على غرار سائر البلوكات الحدودية التي لم تحصل عمليات الاستكشاف والتنقيب فيها حتى الآن. وهذا يعني ربحاً إضافياً لـ "الإسرائيلي"، فضلاً عن أنّه بمجرّد نجاح الوسيط الأميركي في جعل لبنان يتنازل عن المساحة البحرية الواقعة ما بعد الخط 23، كما عن الخط 29، فهذا يعني أنّه بإمكان "الإسرائيلي" بدء أعماله في القسم الأقصى جنوباً من "حقل قانا"، ولا أحد يدري عندئذ ما إذا كان بإمكانه شفط كلّ الغاز الموجود فيه.
ولكن هل يمكن للبنان بعد أن أعلن أنّ حدوده هي الخط 23، العودة الى المطالبة بالخط 29 على ما جرى على طاولة الناقورة؟ تشكّ الأوساط ذاتها في هذا الأمر، إلّا في حال رفض "الإسرائيلي" أن يكون الخط 23 حدود لبنان النهائية، عندئذ بإمكان لبنان العودة الى التفاوض على الخط 29، علّه يربح أكثر من الخط 23 ببضعة خطوط الى الأمام أي الخط 25 أو 26 في منطقة النزاع الموسّعة، الأمر الذي يحفط له "حقل قانا" كاملاُ، فضلاً عن البلوكين 8 و9 بالكامل.
وأشارت الاوساط الى أنّ الرسائل التي أودعت الى الأمم المتحدة من قبل لبنان والعدو الإسرائيلي، لا يأخذها هوكشتاين بالإعتبار، بل يعتبرها محاولة لإعلاء السقف من كلّ من الجانبين. وما يهمّه هو الموقف اللبناني الرسمي الذي سيحصل عليه في غضون أسابيع، وسينقله الى "الإسرائيلي" للقبول به أو رفضه. علماً بأنّ كلام الوسيط الأميركي، خلال زيارته الأخيرة الى لبنان، قد حَمَل تهديداً مبطّناً، بأنّها "الفرصة الأخيرة" للبنان، وعليه الموافقة على عرضه، وإلاّ فلن يحصل على شيء. لكنّ كلامه هذا ليس صحيحاً، فمن قال لهوكشتاين إنّها الفرصة الأخيرة للبنان، على ما عقّبت الاوساط، ومن الذي جعله يحدّد أنّ للتفاوض مدّة صلاحية تنتهي في آذار المقبل، على ما يطمح، وإلّا سينسحب من مهمّته هذه؟!
يبقى معرفة خيار الدولة اللبنانية، هل ستختار الحلّ الأنسب للبنان بعيداً عن المواجهات الأمنية والإقتصادية؟ أم ستستعجل توقيع الإتفاقية بشكل غير مباشر مع العدو الإسرائيلي، لكي تبدأ بالإستفادة من ثروة لبنان النفطية والبحرية، وستُفسّر تنازلها عن الخط 29 وتمسّكها بالخط 23 من دون نقصان أي نقطة ماء من ضمنه، بأنّه لمصلحة لبنان ومستقبل شعبه؟!
دوللي بشعلاني