الحرب في أوكرانيا شأن عائليّ لبنانيّ
اعتاد اللبنانيون على أن يكون لهم في كل عرس على الكوكب، قرص. والقرص أوكراني – روسي هذه المرة. فمنذ بدء الحرب على أوكرانيا، عاد الحنين ليسيطر على خرّيجي جامعات هذين البلدين اللَّذين كانا يُعرفان باسم «الاتحاد السوفياتي». أما ما يسيطر على أبناء الجالية الأوكرانية، إلى القلق على الأهل، الانقسامات السياسية بين من يتفهّم خطوة روسيا وبين من يرفضها
على شاشة كبيرة، أفرد نشأت خريطة أوكرانيا لتعقّب الاجتياح البري والقصف الجوي للجيش الروسي. بقلق يتابع المستجدات مع زملائه المتخرّجين من جامعات أوكرانيا. منهم قاسم، الذي ينبري لتصحيح المعطيات المضلّلة المتناقلة عن حرب أوكرانيا، مثل الطريقة الخاطئة في لفظ أسماء المدن. على سبيل المثال، فإن المدينة الواقعة على حدود روسيا، التي تتصدّر أخبار الحرب "هي خاركوف وليست خاركيف كما حُوّر اسمها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي" يقول. هكذا كان اسمها عندما سافر قاسم مع نشأت والعشرات من شبّان بلدتهما الصرفند (قضاء صيدا) للدراسة فيها بمنح من ضمن برنامج التعليم المجاني الذي قدّمه الاتحاد السوفياتي لشعوب العالم.
زمن «الاتحاد السوفياتي»
في الصرفند كما في الكورة وطرابلس وكفررمان وعرسال والمتن وغيرها، يدرك من درس في أرمينيا وأذربيجان والشيشان ورومانيا و... بأن المنح هي من الاتحاد السوفياتي وليست من دوله التي كانت مدناً بلا حدود فاصلة. "لم نكن نسمع بأوكرانيا. درسنا بالروسية وتحدثت المناهج عن تاريخ وفلسفة الاتحاد السوفياتي. وبعد عام 1994، صرنا ندرس شيئاً من تاريخ أوكرانيا" يقول نشأت.
عندما غادر الأخير مع صديقه قاسم إلى موسكو عام 1990، نُقلا إلى الفندق المخصّص لاستقبال الطلاب الأجانب. هناك، يُوزّع الطلاب عشوائياً على أنحاء الاتحاد، باستثناء من يحدّد وجهته لأن لديه أقارب وأصدقاء فيها. لكنّ نشأت لم يفعل. اختار خاركوف ولم يختر لفوف (عند حدود بولندا) التي سبقه إليها شقيقه عبد لدراسة الطب. منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تلمّس الشقيقان المتوزّعان على ضفتي أوكرانيا بأن العلاقة مع الجيران الروس، ليست على ما يرام. مع ذلك، فُرض على نشأت، جار روسيا، وعلى عبد جار بولندا، التحدّث والدراسة باللغة الروسية. بحسب عبد، كان عدد من كبار السن من سكان لفوف "يتحدّثون بالأوكرانية ويجاهرون بالعداء لروسيا التي انتزعتهم من بولندا وأوروبا وضمّتهم إلى الاتحاد السوفياتي في زمن ستالين. ومن بينهم، خرج زعيم القومية الأوكرانية ستيبان بانديرا الذي تحالف مع النازية ضد الاتحاد السوفياتي". بأمّ العين، شاهد عبد كيف أزال السكان، تمثال لينين فور انهيار الاتحاد، وبدّلوا اسم مدينتهم إلى لفيف تأثراً باللغة الأوكرانية التي اعتمدت مجدداً كلغة رسمية للتخاطب والتعليم.
...وزمن «زيلينسكي»
اهتمام اللبناني بالحديث عن اللغة وعن التاريخ السياسي، لا يشبه اهتمام الأوكرانيات المقيمات في الصرفند وجاراتها. سيدات ينحدرن من خاركوف ولفوف وكييف ولوغانسك وغيرها من المدن التي باتت أسماؤها تتردّد كثيراً في وسائل الإعلام، انتقلن إلى لبنان بعد زواجهن من طلاب لبنانيين أنهوا دراستهم هناك. القلق على الأهل هو الذي يسيطر عليهنّ، حتى لو انقسمن بين مؤيدات لخطوة روسيا وبين رافضة لها.
بأصابعها، تتشبث لاريسا بسوار عليه علم بلادها. تدلّ على شحوب وجهها وعلى خسارتها للوزن وعلى شعرها الذي يتساقط، كعوارض بدأت تزورها منذ بدء الحرب. أكثر ما يخيفها أن تتلقى "خبرية سودا من أوكرانيا. أنا شو بعمل؟". تهتف "الله أكبر"، مناشدة الله وقف الحرب. أهلها لا يزالون هناك. تتواصل معهم يومياً، وهم في بيوتهم أو عندما ينزلون إلى الملاجئ هرباً من القصف الروسي. تتمنى لو تستطيع استضافتهم في لبنان، لكن دربهم سيكون طويلاً باتجاه أوروبا من لفوف. تتجنب إبداء موقفها مما يحصل: "أنا ما فيي قول. لو بدي إحكي سياسة، بتروح العيلة. أنا نصفي في روسيا ونصفي الثاني في أوكرانيا". ابنة مدينة كروبونيتسكي (التي كان اسمها كروغوجراد في الزمن السوفياتي) والدها روسي ووالدتها أوكرانية.
عائلتها مختلطة على غرار أكثر من 50% من الأوكرانيين. كبار العائلة ممن نشأوا في الزمن السوفياتي، يتحدّثون بالروسية. أما الأجيال التي ولدت بعد الانفصال، فكثير من أبنائها تعلموا الأوكرانية من المدارس. سخطها على الروس "الذين يقصفون الأبرياء العُزّل"، لا يمنعها من تمرير عبارات تظهر سخطها على سياسة رئيس بلادها فولديمير زيلينسكي: "ما بدنا نفوت بالاتحاد الأوروبي. نحنا مبسوطين هيك". تشير إلى خطة الحكام بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مستعرضة "فوارق ثقافية ومجتمعية بين الشعب الأوكراني الشرقي والأوروبيين".
الانقسام... بالروسي
صديقتها فيكتوريا تجاهر بالعداء لروسيا وتناصر زيلينسكي. "صح هو كوميدي، لكنه لم يهرب ويحب وطنه". في مدينتها كييف، يقود والدها تظاهرات يومية ضد حرب بوتين (الرئيس الروسي). تحفظ على هاتفها مقاطع مصوّرة يرسلها إليها يومياً. هي على بعد آلاف الكيلومترات، تردد هتافات كييف. تنشد بالروسية وهي تضحك. تفسر لنا بأن الهتاف الذي تنشده أشبه بـ"هيلا هو بالروسية ضد بوتين". مقتنعة بما فعله زيلينسكي. "أوكرانيا تريد الاستقلال، إنما روسيا تريد أن تبقينا تحت رحمتها". تدخل فيكا في جدال مع لاريسا حول جدوى الحرب... فتتحدثان سوياً باللغة الروسية. توضح فيكا، ذات الأب الأوكراني والأم الروسية "مئة في المئة"، أنها اعتادت عليها "لأن أهلي بيحكوا روسي". إنما وبالرغم من روابط الدم والتاريخ والجغرافيا، فإن "الجيل الصغير سوف يكره روسيا بعد هذه الحرب. أوكرانيا كانت حلوة. وعندما يقصف الروسي المستشفى والمدرسة والناس، راح الحب. إنس الحب".
تبدي فيكتوريا روحاً عالية من الصمود والمقاومة. تشبّه المقاومة الأوكرانية بمقاومة حزب الله ضد إسرائيل. فهي شهدت عدوان 1993 و1996 و2006. "دائماً من يدافع عن نفسه هو الأقوى. في عام 2006، دخلت الدبابات الإسرائيلية 60 كيلومتراً داخل لبنان. ظن البعض بأن الأمر انتهى. وفجأة أهل الأرض هزموا المحتل. ونحن هكذا سنفعل".
تحرّكات تضامنية
على باب منزلها، تعاجلنا لودميلا بالقول: "خلصوا بحالكم إنتو ومشاكلكم"، رداً على سؤالنا عن موقفها من الحرب على بلدها. تكتفي بالقول: "أنا أوكرانية مئة في المئة. لكن هينة الحرب؟ أنتم عشتم الحروب والتهجير وأنا عشتها معكم". لودميلا واحدة من الأوكرانيين المعارضين لسياسة زيلينسكي. "لكن ما فيها تحكي. بيقوموا عليها الأوكرانيات".
أما سفيتا، فهي لم تكتف بالتضامن مع بلدها في المجالس الخاصة. استثمرت نشاطها في "تجمّع الأوكرانيين في لبنان" منذ انتقالها للعيش هنا منذ سبع سنوات بعد زواجها من لبناني، في تنظيم أنشطة تضامنية نصرة لبلادها. ابنة مدينة أوديسا ساهمت في تنظيم وقفات احتجاجية أمام السفارة الروسية في بيروت وفي جمع تبرّعات لإرسال مساعدات إلى المدنيين تحت الحرب. والأهم بأنها "تخوض حملة مناصرة على مواقع التواصل الاجتماعي لنقل الحقيقة إلى العالم عبر شقيقها العالق تحت القصف وأصدقاء لها". تبدي سفيتا اعتزازها بـ"التضامن اللبناني معها في مقابل حقد عدد من أقاربها المقيمين في روسيا". تحقد سفيتا على النظام الاشتراكي وتدافع بحماسة عن خيار الانضمام إلى أوروبا. "لا نريد بأن نأكل الخبز فقط. نريد أن نتطور ونجمع المال وأن نعيش بحرية وديموقراطية".
بالرغم من مرارة الحرب، فاخرت الأوكرانيات بأهمية بلادهن الاقتصادية في لبنان والعالم. تقول فيكا إن "البعض يأتي من أوروبا ليأخذ تراباً من أوكرانيا بسبب خصوبتها". تستدرك لاريسا بالقول: "أوكرانيا ليست أكلاً وطحيناً وزيتاً فقط". تخنقها العبرة وتقول: "الله كريم".