حسابات “الحزب” لِما بعد بعد… العهد المقبل

حسابات “الحزب” لِما بعد بعد… العهد المقبل

الكاتب: وليد شقير | المصدر: اساس ميديا

3 كانون الأول 2022

تتّجه أنظار الفرقاء اللبنانيين إلى العواصم الكبرى وبعض دول الإقليم لعلّها ترسم طريقاً لحلّ معضلة ملء الفراغ الرئاسي، ومنها واشنطن حيث ستُعقد القمّة الأميركية الفرنسية، في وقت لا يبدو أنّ في يد أيٍّ من هذه العواصم أو الدول مفتاح الحلّ لهذه المعضلة إذا لم تُعقد تسوية على إخراج البلد من مأزقه مع إيران و”حزب الله” الذي يمسك بورقة انتخاب الرئيس الجديد من خلال الورقة البيضاء وتعطيل نصاب الجلسات إلى أجل غير مسمّى.

في طهران المأزومة هذه الأيّام بفعل تنامي الاحتجاجات الشعبية عقب مقتل مهسا أميني في 16 أيلول الماضي، التي تنذر باهتزاز نظام الملالي فيها، )من دون استشعار خطر السقوط)، اعتبر المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي أنّ لبنان واحد من ستّ دول (إضافة إلى العراق وسوريا وليبيا والسودان والصومال)، تشكّل خطّ الدفاع الأوّل عن إيران، كما جاء في خطابه في 26 تشرين الأول، وهذا ما يقود إلى التعاطي مع الرئاسة في لبنان على أنّها محطة رئيسية عند طهران من أجل احتفاظها بخطّ الدفاع الاستراتيجي الذي كوّنته في البلد خلال العقود الماضية وصولاً إلى رئاسة ميشال عون.

لبنان جزء من المواجهة في الداخل الإيرانيّ؟

مع أنّ خامنئي لم يأتِ على ذكر انتخابات الرئاسة في لبنان في خطابه الأخير الذي خصّصه للتعبئة ضدّ المتظاهرين في المدن والمحافظات الإيرانية الذين وصفهم بـ”بضعة أشخاص من أعداء الثورة داخل البلاد من مثيري الشغب”، فإنّ ما قاله الأمين العامّ لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله في كلمته في 11 تشرين الأول الماضي عن هذا الاستحقاق كفيل بتوضيح ما يفرضه النفوذ الإيراني، إذ أكّد أنّ “رئاسة الجمهورية مفصل مهمّ وحسّاس ومصيريّ بالنسبة إلى لبنان يترك أثره على 6 سنوات وما من بعدها سنوات، يعني لا تنتهي بعد انتهاء 6 سنوات. وعندما نقول على هذه الدرجة من الأهميّة ونملأ الموقع كيفما كان وبأيّ كان فمعنى ذلك أنّنا نستهين بالموقع”. بهذا المعنى يعتبر الحزب أنّه على الرغم من ضغط الفراغ وضغط الوقت يجب ألّا يؤدي ذلك إلى ملء الشغور بشخص يأتي نتاج تسوية متسرّعة أو ليس واضح الالتزامات في السنوات الستّ المقبلة، لضمان أن يبقى لبنان جزءاً من خطّ الدفاع الأول عن إيران. فخامنئي رأى أنّ قاسم سليماني أسقط خطة الغرب وأميركا في ثلاث من الدول الستّ، (لأنّ طهران لم تدخل شمال إفريقيا كما أوضح) هي العراق وسوريا ولبنان، “من أجل إضعاف إيران… وفي لبنان لأنّ هناك قواعد ثورية قويّة حليفة لإيران أرادوا القضاء على “حزب الله” و”أمل” ولم يحدث ذلك ولم يستطيعوا… لقد أخفقوا هناك، فيريدون دخول الميدان بطريقة أخرى، ولذا يطلقون أعمال الشغب”.

كما في العراق وسوريا لا مجال للتهاون

اعتبر خامنئي أنّ “ميدان المعركة ليس ميدان أربعة أشخاص (تسخيفاً لحجم المشاركين في الاحتجاجات) من مثيري الشغب في الشارع. تجب معاقبة كلّ مثير للشغب، وكلّ إرهابي، لكنّ الميدان ليس مجرّد هذه الساحة، فهو أوسع بكثير من هؤلاء وأعمق بكثير”.

حين اندلعت الاحتجاجات في إيران وقبل أن تتوسّع في سائر المدن الإيرانية، كان انطباع كوادر رئيسة من “حزب الله” يتردّدون إلى بلاد فارس، سواء بحكم العلاقة العسكرية والأمنيّة أو بحكم العلاقة التجارية ورعاية المصالح الاقتصادية والاستثمارية المشتركة، أنّ النظام يخطئ في التعامل معها بالقمع الشديد، لأنّ ردود فعل الشارع الإيراني، بدءاً من قصّ النسوة شعورهنّ، مروراً بالشعارات التي انطلقت من الجامعات، وصولاً إلى نزع عمامات رجال الدين في الأماكن العامّة، ستكون لها مضاعفات توسّع النقمة على النظام لأنّها ستوقظ الشرائح الشعبية التي أفقرها القصور الرسمي عن تلبية احتياجاتها الحياتية اليومية، الناجم في جزء كبير منه عن العقوبات الأميركية، إلى حدّ سقوط هذه الشرائح في حالة من الجوع والعوز. ما حصل جاء معطوفاً على مكنونات الاعتراض على التمييز العرقي والمذهبي في المناطق الكردية والسنّية. وقد كسر الاعتراض على القمع، ومقاومته أحياناً، حاجز الخوف حيال تحطيم رموز السلطة الدينية والعسكرية بإحراق صور الخميني وخامنئي وسليماني، وبالتصدّي لقوات الباسيج وتشكيلات “حرس الثورة”، وبسقوط الدماء وقتل المحتجّين الذين سقط منهم المئات، وبقرارات الإعدام…

لكن لا مجال لأيّ تهاون من قيادات “حزب الله” على الرغم من انطباعات كوادره التي أقلقها القمع الإيراني في الداخل، ما دام المرشد والقيادة الإيرانية قرّروا التعامل مع الاحتجاجات بهذه القسوة وبمبرّرات تعبوية كالتي ساقها خامنئي في خطابه الأخير، وعلى أنها جزء من معركة واسعة تمتدّ ميادينها إلى العراق وسوريا ولبنان.

 

التسوية على الترسيم والسنوات الستّ المقبلة

لا بدّ للحزب من أن ينسجم مع هذه الرؤية الاستراتيجية لِما يجري في الداخل الإيراني. في العراق نجحت القيادة الإيرانية في استيعاب محاولة التفلّت من قبضة نفوذها عبر “تحييد” مقتدى الصدر وإنهاء حقبة مصطفى الكاظمي بنزعته الاستقلالية، لمصلحة رئيس الحكومة محمد شياع السوداني القريب من “الإطار التنسيقي” وتشكيلات الحشد الشعبي، ثمّ من خلال دفع القوات العراقية إلى تطويق تحرّك الفرع الإيراني لـ”حزب العمال الكردستاني” عبر الحدود لنصرة المناطق المحاذية لكردستان العراق. وفي سوريا تواصل طهران تمتين وجودها ونفوذها عن طريق توسيع انتشار الميليشيات التابعة لها، والإكثار من القواعد العسكرية الصغيرة المنتشرة في مناطق سيطرة قوات النظام، وتعمل منذ مدّة على تثبيت قدراتها العسكرية الدفاعية لمواجهة ضربات الطائرات الإسرائيلية باستقدام أنظمة صواريخ أرض جو. كلّ ذلك بالتعايش مع النفوذين الروسي والتركي، وعلى الرغم من التنافس.

في لبنان عملت طهران على حماية وجود “حزب الله” العسكري الخاضع للتطوير التدريجي عبر عقد اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي يجنّب الحزب أيّ تدمير إسرائيلي لقوّته العسكرية في أيّ مواجهة عسكرية محتملة. ولم يكن التساهل في الترسيم إلا ليخدم تثبيت دور الحزب البعيد المدى، واحتفاظه بقوّته العسكرية ومواصلة تطويرها تحت سقف تسوية للمسألة الحدودية تتيح له الاحتفاظ بخطّ بياني متصاعد في إدارته الميدان اللبناني، واشتراكه انطلاقاً من القاعدة التي يشكّلها هذا الميدان في حماية دور طهران المتعاظم في دمشق. وليس عن عبث أن تتناول حسابات نصر الله في هذا السياق السنوات الستّ المقبلة لولاية الرئيس الجديد، وللسنوات التي تليها، كما قال.

كيف الملاءمة بين فرض رئيس والحلول الاقتصادية؟

كان يمكن لتسوية على الرئاسة اللبنانية أن تكون امتداداً للتسوية التي أجازتها طهران من أجل ترسيم الحدود البحرية، والتي أكسبتها موقع القادر على لعب دور في أمن الطاقة الأوروبي، لو لم تفرض التطوّرات في الداخل الإيراني مساراً متشدّداً في سائر ميادين النفوذ. يعتقد البعض أنّ تسوية على الرئاسة ما زالت ممكنة، مقابل استبعاد البعض الآخر ذلك لأنّ صعوبتها تكمن في حراجة إقدام الحزب على الملاءمة بين الحاجة إلى فرض رئيس منسجم مع مقتضيات الاستراتيجية الإيرانية يكون بهذا المعنى امتداداً لعهد عون، وبين الحاجة إلى حلول لأزمة البلد تتفادى المزيد من غرقه في مأزقه الاقتصادي المأساوي. إذ إنّ عهداً جديداً كالعهد السابق يعني صفر مساعدات ماليّة ووصول الشعب اللبناني إلى القعر.

السلاح ورعاية المحاصصة

إنّ السنوات الستّ السابقة التي أملتها أولويّة الحاجة إلى رئيس مطواع في السياسة الإقليمية، دفعت الحزب إلى رعاية المحاصصة والفساد والهدر والعزلة اللبنانية عن العرب والغرب، تماماً مثلما أملت سياسات طهران المتّصلة بالإنفاق على التوسّع الإقليمي وتطوير البرنامج النووي والصاروخي، عقوبات وعزلة دولية، إضافة إلى هيمنة الحرس الثوري وفساد أدوات التعبئة العقائدية اللذين أغرقا المجتمع الإيراني في العوز الاقتصادي وقيّدا حرّيّات أجيال من الشباب الذين انفتحوا على الترقّي الأكاديمي والتعليمي ولم تعد تقنعهم التعبئة الدينية كما كان الأمر أثناء الثورة على الشاه.

لقد سبق للحزب وحلفائه أن مارسوا حيال انتفاضة 17 تشرين عام 2019 أوجه القمع المعروفة، بل كاد بعض قادته يذهبون نحو ممارسة القتل لاعتبارهم أنّ الانتفاضة موجّهة ضدّ الحزب، لولا تنبّه البعض الآخر في هذه القيادة إلى مخاطر ردود الفعل على ذلك، وهو قاوم أيّ تغيير جوهري في تكوين السلطة التي رعاها حين اشترط المجتمع الدولي إعطاء إجازة من المشاركة في الحكومة لرموز الطبقة الحاكمة، لعلّ بعض المستقلّين يمكنهم تصويب أداء مؤسّسات الدولة اقتصادياً. لكن لم تحتمل قيادته أن يتولّى المسؤولية من هم بعيدون عن لغة المحاصصة لأنّه يطمئن إلى المساومات معهم أكثر من أيّ وافدين جدد إلى موقع القرار. فهل يتخلّى الحزب عن تلك المعادلة كي يقبل بتسوية على الرئاسة، مع ما يعنيه ذلك من التسليم بوجوب أن يعدّل حلفاؤه، ومنهم النائب جبران باسيل، طموحاتهم، وفي هذه الحالة سيكون لهذا الخيار مرشّحه الرئاسي، أم لا يطمئنّ إلا إلى أقطاب الطبقة السياسية والمساومات معها، فينحاز إلى أحد أقطابها بلا تردّد؟

ما يرشح عن لقاءات قيادة الحزب مع بعض المرشّحين الرئاسيّين أنّ السؤال الأخير الذي تطرحه عليهم يتعلّق بموقف كلّ منهم من السلاح، فإذا كان الجواب غير واضح أو يتجنّب التزام معارضة التوجّهات الخارجية التي تهدف إلى إخضاع هذا السلاح لإمرة الدولة اللبنانية، يُشطب من اللائحة التي هي أصلاً قصيرة.