دور فرنسا التاريخي لبنانيّاً… والاستحقاق الرئاسي
الكاتب: مجد بو مجاهد | المصدر: النهار
11 نيسان 2023a
تُجمع القراءات التاريخية على دور إيجابيّ لطالما اضطلعت به فرنسا لبنانياً منذ أن “أشرقت شمس” العلاقات المباشرة بين البلدين، ثمّ وصلت إلى كامل سطوعها مع نهاية القرن السادس عشر. “الأمّ الحنون” و”صديقة لبنان”، شعاران يترافقان بشكل طبيعيّ مع السرد التفصيليّ للمؤرخين الذي يحكي عن علاقة البلدين. في المُختصر التاريخي، وقفت فرنسا إلى جانب لبنان في المفاصل الكبرى ودعمت الشعب اللبناني ونادت بسيادة البلاد واستقرارها وساهمت في الإبقاء على الثقافة الفرنسية تربوياً وصحياً ومجتمعياً. وفي الخُطب، يكفي استعادة روحية الجنرال هنري غورو مُعلناً قيام دولة لبنان الكبير الأربعاء 1 أيلول 1920، حين قال: “أمام هؤلاء الشهود على آمالكم ونضالاتكم وانتصاراتكم، ومشاركة فرحكم وافتخاركم، أعلن لبنان الكبير وباسم الجمهورية الفرنسية أحيّيه في عظمته وكنوزه من النهر الكبير، إلى أبواب فلسطين، إلى قمم لبنان الشرقي”.
التفاصيل التاريخية الأساسية للعلاقة اللبنانية الفرنسية، يروي المؤرخ الدكتور عماد مراد أنّها انطلقت بشكل مباشر خلال القرن السابع عشر مع وصول القناصل الفرنسيين إلى المدن اللبنانية. وترسّخت هذه الجذور الحديثة أيام الحكم المعني بخاصة في زمن الامتيازات؛ وحصل ذلك عندما حصلت فرنسا مع نهاية القرن السادس عشر على امتيازات من السلطنة العثمانية لحماية المسيحيين في السلطنة العثمانية وعلى رأسهم في لبنان. وقد بدأت هذه الامتيازات تتطوّر بشكل أكبر كلّما قويت فرنسا وضعفت السلطنة العثمانية، حتى أصبح للقنصل في صيدا وطرابلس وصور وبيروت الحقّ في حيازة عدد من المرافقين، ويتمتع بحصانة تمنع الجيش العثماني من التعرّض له. وكانت الامتيازات تزداد كلّما ضعفت الدولة العثمانية إضافة إلى أعداد المرافقين والمترجمين. وبعد ذلك، تجسّدت العلاقة المباشرة الأكبر مع وصول نابوليون بونابرت إلى مصر واتّخاذه قراراً بالتوجّه إلى فلسطين وسوريا؛ حينذاك رفض الأمير بشير الشهابي الثاني إمداده بالدعم اللوجستي خوفاً من انتقام والي عكا أحمد باشا الجزار منه.
المرحلة الثالثة للحضور الفرنسي الأكثر بروزاً في لبنان، يعيدها المؤرخ مراد إلى العام 1860 بعدما اندلعت حرب في جبل لبنان بين المسيحيين والمسلمين ووصلت الأصداء إلى فرنسا فانتفضت الجمعية العامة (مجلس النواب)، واتّخذ نابليون الثالث قراراً بمساعدة المسيحيين وسط تأييد الشارع الفرنسي لخطوة مماثلة. فأرسل نابليون الثالث الجيش الفرنشي للتدخل وتهدئة الحرب والضغط على المعنيين لإيقافها. ووصلت فرق الجيش الفرنسي متأخرة لكنّ تأثير الفرنسيين كان بارزاً إلى جانب الموارنة لمنع استمرار الاقتتال والمساعدة على ضبط الأمن والسعي إلى عودة الهدوء والضغط على الدولة العثمانية للتعويض على المتضرّرين من الحرب.
الدور الإنقاذي لفرنسا تبلور أيضاً بعد دخول الجيش الفرنسي إلى لبنان بُعَيد المجاعة التي ضربته بين عامي 1915 و1917؛ وقد ساهم في توزيع الإعاشات والمواد الغذائية على المواطنين درءاً للجوع وبهدف تخفيف وطأة الأوضاع المعيشية الصعبة. ويقول مراد إنّه “بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى توجّه البطريرك الياس الحويك إلى باريس وأقنع الرئيس كليمنصو بتوسيع حدود لبنان وإعطاء استقلاله؛ وبعدما تضاعفت الخشية من ضمّ لبنان إلى سوريا نتيجة المحاولات المستمرة للأمير فيصل للاقناع بذلك، أرسل البطريرك الحويك وفداً لمقابلة كليمنصو معبّراً عن الإصرار بعدم قبول ضمّ لبنان إلى سوريا”. ووصولاً إلى زمن الانتداب الفرنسي على لبنان، حيث قدّم الفرنسيون خدمات اجتماعية وثقافية وتربوية وصحية للبنانيين، ثم منح لبنان استقلاله. أما تقلُّص الدور الفرنسي في السياسة اللبنانية، فيُرجعه مراد إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي تسعينات القرن الماضي، التمعت العلاقة الشخصية بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري والرئيس الراحل جاك شيراك، لكنّ مراد يلفت إلى أنّ الدور السياسي الفرنسي بقي محدوداً في تلك الحقبة التي شهدت احتلال النظام السوري للبنان حتى العام 2005.
زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان مرّتين عام 2020 بُعَيد انفجار مرفأ بيروت ورعايته للمساعدات ورعايته الورقة الفرنسية تحت مسمى الخريطة الانقاذية المتضمنة إصلاحات بارزة لا يزال يُنتظر تنفيذها. اليوم، بات الاستحقاق الرئاسي الأبرز على نطاق الاهتمام الفرنسي بالتطورات اللبنانية. يعود سياسيون لبنانيون من باريس بعدما عبّروا عن طروحاتهم واستمعوا إلى المقاربة الفرنسية حيال الاستحقاق الرئاسي، فيما بدت بارزة المعطيات التي اختصرت لقاءات رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مع تطرّقها إلى أهمية إجراء الاستحقاق الرئاسي سريعاً والحاجة إلى تسوية غير مبنية على اختيار رئيس للجمهورية ينتمي إلى طرف سياسي ما يفاقم المشكلة ولا يؤسس إلى مرحلة أفضل. وبحسب معطيات “النهار”، أضاء جنبلاط في فرنسا على مقاربته المؤكّدة أهمية اختيار رئيس للجمهورية لا يشكّل معيار تحدٍّ لأي من المكونات اللبنانية، مستعيداً الأفكار التي كان تحدَث بها خلال لقاءاته مع القوى السياسية المحلية مع استعراضه للأسماء التي طرحها في الأسابيع الماضية تاركاً الباب مفتوحاً أمام التطرّق إلى أسماء إضافية.
ولفت جنبلاط أيضاً إلى ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية مع الأخذ برأي الكتل المسيحيّة الأكثر تمثيلاً، إضافةً الى أهمية اختيار شخصية تتمتع بعلاقات جيّدة مع المملكة العربية السعودية وقادرة على استعادة ثقة دول الخليج العربي. ومن جهتها، طرحت الأوساط الديبلوماسية الفرنسية التي التقاها جنبلاط أفكار عدّة منها صيغة التوازن المتقابل بين الرئاستين الأولى والثالثة، ومن الأسماء التي جرى التطرق إليها الحديث عن معادلة الوزير السابق سليمان فرنجية والقاضي نواف سلام. وفي إطار متّصل، تفهّم الديبلوماسيون الفرنسيون الذين التقاهم جنبلاط وجهة نظره المعبَّر عنها واستمعوا إلى مقاربته. وتجدر الإشارة إلى معلومات عن لقاءات جمعت الديبلوماسية الفرنسية بعددٍ من الشخصيات المتنوعة المطروحة للرئاسة الأولى، ما ينفي بعض التحليلات الإعلامية التي تختصر صورة الحراك الفرنسي رئاسياً بفرنجية، بل إنّ ما يحصل وفق متابعين للتحرّك الباريسيّ يأتي في إطار البحث عن حلول للمراوحة الرئاسية اللبنانية باقتراحات متعددة وغير محصورة بمرشح رئاسيّ معين. ويواكب فريق الرئاسة الفرنسية طروحات مرشحين عدّة ونظرتهم الرئاسية والنقاط الأولية لأيّ برنامج عمليّ يمكن أن يضعوه في حال وصولهم إلى مركز الرئاسة الأولى خلال المرحلة المقبلة. ويصحّ القول، إن دور باريس يأتي في إطار الاستماع ومناقشة الأسس المبدئية للمرشحين على تنوّعهم.