جعجع وسمفونيّة Dvorak

جعجع وسمفونيّة Dvorak

يؤمن سمير جعجع بأنّ كلّ شيءٍ في هذا الكون له خطٌّ بيانيٌّ مرسومٌ بدقّة، وبأنّ قدره كـ"محارب دائم" هو في قراءة الواقع والتكيّف معه والاستمرار بالسير صوب الهدف.


ربّما يكون البُعد الدينيّ التبشيريّ في جذور هذه القناعة، ذلك أنّ الرجل تأثّر بالإنجيل والعهدين القديم والجديد، ومرّ قليلاً بقراءة سطحيّة على القرآن أثناء سجنه، فتعمّقت مسيحيَّته. وهو قرأ كذلك، وعلى نحوٍ أعمق، أفكار الكاهن اليسوعيّ والفيلسوف الفرنسي بيار تيار دو شاردان القائل: "في نهاية الأمر، إنّ الأسئلة حول سبب حدوث الأشياء السيّئة للأشخاص الطيّبين، تُحوّل نفسَها إلى أسئلةٍ مختلفةٍ تماماً، ولم تعد تسأل لماذا حدث شيءٌ ما، بل تسأل كيف سنردّ، وما الذي ننوي فعلَه الآن بعد حدوثه".


يستمع رئيس حزب القوّات اللُّبنانيّة الذي لم يشأ حتّى اليوم تغيير صفة "القوّات" عن حزبه السياسيّ، إلى الكثير من الأغاني العربيّة، وهذا دأبُه منذ أيام الحرب الأهليّة السيّئة الذكر، فهو كان يُشاهد الكثير من الأفلام ويستمع إلى الموسيقى، وكان يحلم بالذهاب إلى بعض النوادي الليليّة لو استطاع إلى ذلك سبيلاً. غالباً ما يستمع إلى معظم الأغاني العربيّة من الكلاسيكيات الشهيرة، مروراً بما يُعرف بـ" الطقطوقة"، ووصولاً إلى الكليبّات المصوّرة.



يؤمن سمير جعجع بأنّ كلّ شيءٍ في هذا الكون له خطٌّ بيانيٌّ مرسومٌ بدقّة، وبأنّ قدره كـ"محارب دائم" هو في قراءة الواقع والتكيّف معه والاستمرار بالسير صوب الهدف


حين "يتغرّب" موسيقيّاً، تجذبه واحدةٌ من أعرق السمفونيات العالميّة المعروفة باسم "New world" (العالم الجديد) لمؤلّفها المُبدع التشيكيّ الأصل والأميركيّ الشُهرة Antonin Dvorak المولود في براغ عام 1841.


ثمّة تشابه لافت بين سمير جعجع وهذه السمفونيّة. فهي مثله حاولت منذ نحو مئتي سنة أن تُجاري العصرَ الأميركيّ، لكنّها بقيت جبليّة الإيقاع صاخبة في مقاطع أساسيّة منها، وهي مثله أخذت بعضَ روحَها من تراث السكّان البسطاء الأصيلين لأميركا من الهنود الحُمر، تماماً كما يحاول هو أن يتمترس في حصنه قرب شجر الأرز، مؤثِراً الطبيعة على ضجيج المُدن وتلوّثها وخطرها. وهي مثله كذلك لم تُكمل حُلُمَها فتوقّفت عند الجزء الأول منها، تماماً كما يصطدم طموحُه الرئاسيّ دائماً في منتصفات الطرق، إمّا لخطأ في الحسابات والقراءات، أو بسبب العناد والمكابرة، وإمّا لعدم القدرة على تحمّل حجم التنازلات.


سمير جعجع.. الرئيس


يحقّ لسمير جعجع، من الناحية الدستوريّة والعرفيّة والمنطقيّة، أن يكون رئيساً. فهو مارونيّ من عرين الموارنة في شمال لُبنان، وهو يتربّع على عرش واحدة من أكبر الكتل النيابيّة والشعبيّة في الوسط المسيحي، وفي لبنان أيضاً. وليس سهلاً عليه بالتالي أن يقبل برئيسٍ لا يملك رُبع هذه الكتلة. لكنّه يتكيّف مع رفضِ شخصه لهذا المنصب، فيخترع مُخرجات وإحراجات أخرى، تُبقيه لاعباً أساسيّاً حول رقعة الشطرنج، حتّى لو لم تحقّق حلمه، وحتّى لو أوحى بالرغبة بالتقسيم.


ابنُ العسكريّ، المولود بسبب خدمة والده، في عين الرمّانة، جذبته العاصمة بأضوائها حين كان في أوج الشباب، ثمّ انكفأ عنها لخطرها وزواريبها وانتفاضاتها. ثمّ جذبه الطبّ لكنّه اضطرّ إلى الانكفاء عنه ولم يندم. فهو لا يرى في هذه المهنة غير الملل والرتابة. وجذبته الحرب، فخاض غمارَها، وكاد يُقتل أكثر من مرّة، ثمّ انكفأ غير نادم على خوضها ولا على تركها. لكنّه تعلّم منها أنَّ القدر أقوى من كلّ شيء، وأنّ الهوّة بين الإقطاع المارونيّ وبين إنسانٍ عاديٍّ أعمق ممّا كان يعتقد.


حين انخرط في معترك السياسة، أوصلته إلى السجن سريعاً في مرحلتها الأولى، ثمّ أرجَحَتْه بين قناعاتِه وبين التسويات الكثيرة التي اضطرّ إلى الانكفاء خلفها وهو يتابع "مسار المُحارب"، تارة مع خصمه اللدود التيّار الوطنيّ الحرّ، وتارة أخرى مع القيادة الحريريّة للسُّنّة في لُبنان، وهو يُدرك تماماً أنّ العمقَ السنّيّ والعوامّ في الطوائف الأخرى يرفضان وصوله إلى الرئاسة.


ليس أكثر شعوراً بالغُبن من رجلٍ يرى حُلمَه قابَ قوسين أو أدنى، ويرى أنّه الأكثر أحقيّة بالمنصب، ولا يستطيع الوصول إليه لأسباب يراها غير منطقيّة.



.يستمع رئيس حزب القوّات اللُّبنانيّة الذي لم يشأ حتّى اليوم تغيير صفة "القوّات" عن حزبه السياسيّ، إلى الكثير من الأغاني العربيّة، وهذا دأبُه منذ أيام الحرب الأهليّة السيّئة الذكر


وليس أكثر شعوراً بالظُلم من قائدٍ عسكريّ سياسي كاد يعتبرُ نفسه سيّد اللُّعبة في منطقته، فإذا به يُرمى 11 عاماً في غياهب السجن، وهو مقتنعٌ بأنّه ظُلم، ليس لأنّه لم يرتكب مجازر كغيره من زعماء الميليشيات وأمراء الحروب، بل لقناعته المسيحيّة والتبشيريّة والعقائديّة والسياسيّة، بأنّه أوّلاً قام بكلّ ذلك لحماية الموارنة، وثانياً لأنّه الوحيد بين كلّ أمراء الحرب من أُدخل السجن.


جعجع و"العروبة"


لا تعني العروبةُ شيئاً في التفكير العميق لسمير جعجع، فمسيحيّته ولبنانيّته هما الأساس، لكنّه كـ"محارب دائم"، لا يعدم وسيلة لمتابعة المسير، ولا بأس إن تقارب مع السعوديّة حتّى في أوج فكرها الإسلاميّ الوهّابي، قبل أن يأتي الإنقاذ الإصلاحي الديني والفكري والاجتماعي على يد وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، فينقذ السعوديّة وينقذه من الإحراج.


نجحت القوّات اللبنانيّة بزعامة سمير جعجع في بناء مؤسّساتٍ حقيقيّة، وتميّز نوّابُها بقراءة دقيقة ومتابعة وثيقة للملفّات، وتقدّمت بمشاريع قرارات إصلاحيّة كثيرة في المجلس، وبينها ما يناهض العنف بكلّ أشكاله، وأسَّست مدرسة تثقيف سياسيّ حضاريّة ونموذجيّة لكوادرها، وتتقن لعبة الإعلام بامتياز عبر إطلالات مدروسة لكوادرها، أو من خلال لولب الإعلام أنطوانيت جعجع وباني الجسور السياسيّة والثقافية ملحم رياشي.


في هذا العام، بلغ سمير جعجع الحادية والسبعين من العُمر، أمضى منها أكثر من 50 عاماً مُقاتلاً أو سياسيّاً. ليس سهلاً على مَن جاء من بيئة متواضعة، وغزا قلب ابنة الإقطاع البشرّيّ السيّدة ستريدا، أن يكتفي بالسير والتكيّف. وليس سهلاً عليه أن يُرشّح أحداً غيره لمنصب الرئاسة من داخل حزبه، حتّى لو كانت زوجته. ولن يكون سهلاً عليه بالتالي، القبول برئيسٍ يعتبره أقلّ تمثيلاً منه بكثير في الجانب المسيحيّ، ويُدرك أنّه يحمل في قلبه آثارَ جريمةِ زغرتا التّي لن تُمحى حتّى لو غابت عن المداولات.


هو حُلْم لم يكتمل، تماماً كسمفونيّة Dvorak، واللافت أنّ التاريخَ يُعيد نفسَه، ولكن كلّ مرّة بصورة أقسى على رئيس حزب القوّات اللُبنانيّة، فكلّ حساباته كانت تقول بإطاحة قريبة بالرئيس السوريّ بشّار الأسد، وبأنّ حزب الله في طور التقهقر، وأنّ السعوديّة ستستمرّ في صراعها مع إيران، وأنّ انتفاضة تشرين اللبنانيّة في عام 2019 تُمهّد لإطاحة طبقة سياسيّة اعتبر جعجع أنّه لا ينتمي إليها.


توقّف الحُلْم في منتصف الطريق، لكنّ السير مستمرٌّ، ولا بُدّ من البحث عن استراتيجية تكيُّف جديدة لمن يصف نفسه بـ"المحارب الدائم والتلميذ الدائم".


ألم يقُل تِيار دو شاردان إنّ "ما يشلّ الحياة هو قلّة الإيمان والجرأة، والصعوبة لا تكمن في حلّ المشاكل، ولكن في التعرّف إليها".


إقرأ أيضاً: فُقّاعة فرنجيّة هذه أسبابها.. وستنفجر


لا شكّ في أنّ سمير جعجع فرض نفسه لاعباً أساسيّاً، أوّلاً على بيئة إقطاعيّة (خصوصاً آل الجميّل وشمعون) أرادت استخدامه فطوّعها، وثانياً في وطنٍ انتهى نظامه ولم يولد فيه بعد أيُّ مؤشّر إلى نظامٍ جديد: فهل يتكيّف مرّة جديدة مع المتغيّرات الفارضة نفسها بقوّة في المنطقة والعالم؟ أم يتمرّد فيعرّض نفسه للخطر؟ ذلك أنّ قطار التسويات غالباً ما يسير على جثث الشعوب والأحلام.

سامي كليب