بو صعب والموقع الأرثوذكسي الرابع الصعب: نائب دولة الرئيس أم دولة نائب الرئيس؟

بو صعب والموقع الأرثوذكسي الرابع الصعب: نائب دولة الرئيس أم دولة نائب الرئيس؟

الكاتب: نجم الهاشم | المصدر: نداء الوطن

21 حزيران 2023


منذ دخوله الحياة السياسية، وخصوصاً بعد انتخابه نائباً في العام 2018، يضع دولة الرئيس الياس بوصعب رجلاً في أرض “التيار الوطني الحر” ورجلاً خارجه. يحاول أن يكون له عالمه الخاص باعتبار أنّ أرض “التيار” ضيّقة عليه ولا تتّسع لطموحاته، وأنّه أكبر من أن يُحصر في إطار حزبي ضيّق. ولكنّه في الوقت ذاته، يبقى مقصّراً في بناء هذا العالم، وفي أن يكون مرجعية أرثوذكسية تشغل الموقع الرابع في تراتبية السلطات في الجمهورية اللبنانية.

قبل بو صعب، مثّل دولة الرئيس ميشال المر هذا الموقع. مثله انطلق من المتن، ولكن بين انطلاقة المر وانطلاقة بو صعب مسافات واختلافات كثيرة. لم يشغل المر الجد نيابة رئاسة مجلس النواب إلا مرة واحدة فقط، بين تشرين الأول 2004 وانتخابات العام 2005 في المرحلة التي شهدت تحوّلاً سياسياً كبيراً تمثّل باغتيال الرئيس رفيق الحريري. منذ العام 1990 عمل المر على أن يكون الرقم 4 في السلطة مستفيداً من قربه من نظام الوصاية السورية على لبنان ومبعداً كل المنافسين له.

لا تزال مسألة إبعاد وزير الداخلية بشارة مرهج من الوزارة في 2 أيلول 1994 شاهداً حياً على سعي المر ليكون الرجل الأرثوذكسي الأول في الدولة. ولكن المر لم يكن مبتدئاً في الحياة السياسية بل كان له تاريخه منذ بداية الستينات. ترشّح إلى الإنتخابات عام 1960 وخسر. ثم كرّر المحاولة عام 1964 وخسر. وفاز في انتخابات 1968 بقوة الحلف الثلاثي في المتن، ولكنه عاد وخسر في انتخابات عام 1972. بالإضافة إلى السياسة انطلق المر أيضاً من عالم المال والأعمال الأمر الذي أمّن له استمرارية الحضور بعد العام 1972، وبعد تمكّنه من نسج شبكة علاقات مع قوى بارزة لكي يبقى حاضراً على المسرح السياسي.

هكذا انخرط في معركة دعم انتخاب قائد «القوات اللبنانية» بشير الجميل رئيساً للجمهورية. ثم عمل مع رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات» إيلي حبيقة دعماً للإتفاق الثلاثي ليخرج من اللعبة خاسراً بعد إسقاط هذا الإتفاق، وليعود بقوة مع إمساك النظام السوري بالوضع اللبناني بعد انتخاب النائب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية، وليتحوّل بعدها إلى رجل النظام السوري القوي في لبنان. ولكن ميشال المر الجد استطاع أن يبني شبكة من العلاقات ومن المؤيّدين أمّنت استمراريته السياسية بعد خروج الجيش السوري من لبنان. صحيح أنّه انضمّ بعد انتخابات العام 2005 إلى «تكتل الإصلاح والتغيير» بقيادة العماد ميشال عون، ولكنه عاد وانسحب منه مفضّلاً استقلاليته ومطمئناً إلى قاعدته الإنتخابية.

بين الفرزلي ومكاري


قبل «الطائف» لم يصل أي أرثوذكسي إلى ما وصل إليه المر. نوّاب رئيس مجلس النواب لم يتسنَّ لهم لعب أدوار بارزة بفعل الإطار الضيق للعبة السياسية، ولأنّ المجالس النيابية لم تكن تُقفل ولا كان رؤساؤها يتحكّمون بمصير مجلس النواب. من الرئيس عادل عسيران إلى الرئيس صبري حماده إلى الرئيسين كامل الأسعد وحسين الحسيني، يمكن تذكر نوّاب الرئيس من أديب الفرزلي إلى ألبير مخيبر ومنير أبو فاضل وصولاً إلى ميشال ساسين وميشال معلولي.

بعد الطائف تغيّرت المعادلات. منذ وصل الرئيس نبيه بري إلى رئاسة مجلس النواب عام 1992 تحكّم بمسار قرارات المجالس التي تعاقبت وأمسك بأقفال المجلس ومفاتيح أبوابه وصارت نيابة الرئاسة مسألة تفصيلية أو منحة سياسية وانعكاساً للعلاقة معه.

شخصيتان أساسيتان توّلتا دور نائب الرئيس وبانتماءين مختلفين هما: النائب الياس الفرزلي والنائب فريد مكاري وقد تركا بصماتهما في هذا الموقع. دخلا معاً إلى البرلمان عام 1992 ولكن نيابة الرئاسة عقدت للفرزلي منذ ذلك العام وكأنه انتخب نائباً عن منطقة البقاع الغربي ليكون نائباً لرئيس مجلس النواب. استفاد الفرزلي من علاقاته السابقة الجيدة مع السوريين وبنى علاقة متوازية مع رئيس مجلس النواب نبيه بري فصار الرجل المناسب للمرحلة في الموقع المناسب.

ولم تخل نيابته من منافسة مستمرة بينه وبين دولة الرئيس ميشال المر الذي بقي نائباً لرئيس مجلس الوزراء. عندما اختير الفرزلي ليكون وزيراً في حكومة الرئيس عمر كرامي في تشرين الأول 2004 اختير رجل الأعمال عصام فارس نائباً لرئيس مجلس الوزراء وأُعطي المر نيابة رئاسة مجلس النواب. ولكن فارس المندفع للإشتراك بالسلطة وملء الموقع الأرثوذكسي الأول فيها لم يستمرّ طويلاً. وكأنّه خرج من السياسة وعاد إلى اغترابه وغيابه مستتراً في أعماله وتاركاً الساحة لمن يملأ الفراغ فيها.

بعد العام 2005 تبدّلت الأحوال. خرج الفرزلي من مجلس النواب ودخل فريد مكاري إلى موقع نيابة رئاسة المجلس. سيتسمرّ في هذا الموقع حتى العام 2018. لم يكن مكاري يمثّل شخصه فقط، بل كان من أركان عهد الرئيس رفيق الحريري و»تيار المستقبل». ولذلك بعد تبدّل الأكثرية في مجلس 2005 لمصلحة قوى 14 آذار كان من الطبيعي أن يحلّ في موقع الرئاسة الرابعة. ولكنه في كل هذه المسؤولية لم يبتعد كثيراً عن الرئيس نبيه بري، وحتى في المرحلة التي شهدت صراعاً حول انتخاب رئيس للجمهورية في مرحلتي 2007 و2014 لم يغامر في تحمل عبء الدعوة إلى انتخاب رئيس للجمهورية بأكثرية النصف زائداً واحداً خارج مجلس النواب وخارج موافقة رئيس المجلس نبيه بري.

دخول بو صعب


عام 2018 خرج مكاري بإرادته من مجلس النواب وعاد الفرزلي إلى ساحة النجمة متحالفاً مع «التيار الوطني الحر» وعاد إلى نيابة رئاسة المجلس. ذلك العام دخل أيضاً إلى البرلمان الياس بو صعب على لائحة «التيار الوطني الحر» نائباً عن المقعد الأرثوذكسي في المتن الشمالي إلى جانب ميشال المر الذي شكّل لائحة مستقلة وكان يختتم حياته السياسية. تلك الإنتخابات شهدت تضخم الحالة العونية بفعل وجود ميشال عون في قصر بعبدا، وكان من الطبيعي أن تركب موجة العهد شخصيات كثيرة. ومنذ بداية العهد وبعد تزكية تنصيب جبران باسيل رئيساً «للتيار الوطني الحر»، بدأ الحديث داخل «التيار» وخارجه عن الوصوليين والمتمولين والمتسلقين والمستفيدين من «التيار» والمستفيد منهم باسيل، وعن المناضلين الحقيقيين والتاريخيين الذين يُستبعدون ويتم التخلّي عنهم، أو يرحلون ويبتعدون من تلقاء نفسهم.

لم يكن الياس بو صعب من سرب «التيار» التاريخي. دائماً كان يُصنّف على أنّه لاجئ إلى «التيار». لم يكن عنده تاريخ سياسي قبل أن يصير من مؤيّدي الرئيس ميشال عون. انتقل من رئاسة بلدية ضهور الشوير ومن الفكر السوري القومي الإجتماعي إلى العونية السياسية التي يمكن أن تحوي كل الأشكال والألوان. بعد انتخاب عون رئيساً للجمهورية اقترب بو صعب من دوائر القصر الجمهوري حتى صار مستشاراً للرئيس، وبفعل قوة حضوره المالي وتأثيره داخل دائرة الرئيس الضيقة استطاع أن يبعد عدداً من المقرّبين من الرئيس ليبني له دوراً مستمراً إلى جانبه بغطاء أيضاً من رئيس «التيار» جبران باسيل.

علاقة غير مستقرة مع باسيل


ولكن علاقته مع باسيل لم تكن مستقرّة. قبل انتخابات أيار 2022 لم يعد من الممكن تأكيد ما إذا كان بو صعب في «التيار» أم خارجه. خاض تلك الإنتخابات على لائحة «التيار» ولكنه ترشّح كأنّه منفرد. حصل على نحو 4000 صوت تفضيلي وفاز نتيجة الحواصل التي حصلت عليها اللائحة. ركز باسيل على فوز أدي معلوف. وكانت النتيحة أن سقط معلوف في مواجهة ملحم رياشي مرشح «القوات» عن المقعد الكاثوليكي، وفاز بو صعب.

تغريده خارج سرب «التيار» كان بدأ قبل تلك الإنتخابات. خلاف باسيل مع الفرزلي أدى إلى خروج الفرزلي من ساحة البرلمان. عندما انتُخب نائباً لرئيس مجلس النواب في 31 أيار بأكثرية 65 صوتاً، ليأخذ مكان الفرزلي، ظهر وكأنّ انتخابه كان فوزاً شخصياً بعيداً من «التيار» وأنّه بهذا الموقع بات يمكنه أن يكون المرجعية الأرثوذكسية المستقلة التي لا يمكن أن تبقى تحت جناح باسيل وحتى ميشال عون. فهو خرج إلى لعب دور في مفاوضات الترسيم البحري كمستشار للرئيس عون وليس كنائب لرئيس المجلس الذي كان بدأ عمليات المفاوضة. وشكّل بو صعب تقاطعاً بين عون وبري مستفيداً من علاقاته مع المنسّق الرئاسي الاميركي الخاص لشؤون الطاقة عاموس هوكشتاين، بحيث تولّى لعب دور المنسق أيضاً بينه وبين «حزب الله». من خلال هذا الدور توسّع سعي بو صعب نحو تمثيل «المرجعية» ولكنه بقي دون سقف هذا التمثيل. صحيح أنه حاول أن يقوم بدور المحاور المتنقل لإتمام الحوار الذي لم يفعله بري في موضوع رئاسىة الجمهورية، ولكن جولاته انتهت إلى تأكيد الفراغ، حتى وصل إلى جلسة تأكيد الخلاف مع باسيل في 14 حزيران حول عدم انتخاب جهاد أزعور خلافا للقرار الذي اتخذته قيادة التيار. في الواقع لم تكن تلك الجلسة البداية. فبو صعب كان بدأ يعلن اختلافه مع باسيل في الموضوع الرئاسي قبل تلك الجلسة. حتى أنّه عندما ذهب إلى واشنطن قيل إنّه كان يحاول تسويق نظرية بري في دعم ترشيح سليمان فرنجية عند الأميركيين الذين يعرفهم، لكي يعود طرح فرنجية من أميركا إلى لبنان، كما يحصل على خط باريس بيروت.

هل يُخرج باسيل بو صعب من كتلة التيار؟ لا شك في أنّ القرار صعب على «التيار» لأنّ المسألة لا تتعلق به وحده. ومن الأنسب للطرفين إبقاء أمر ما حصل في جلسة 14 حزيران سراً من أسرار «التيار» على قاعدة أن الكل التزموا حتى لو لم يلتزموا. أمّا انتخابات 2026 فلا تزال بعيدة. ولا يبدّل فيها طرح بو صعب بعد لقائه بري إجراء انتخابات نيابية مبكرة، الطرح الذي رأى باسيل أنّه «مردود، فالحلّ اليوم ليس بالانتخابات. وإن كان هذا الطرح رسالةً من برّي، أقول إنّ نوّابنا نجحوا بأصواتنا، ولكن طبيعة قانون الانتخاب تفرض تأمين الحواصل بالدّخول في لوائح… الحاصل يتأمّن باللّائحة، أمّا الفوز فيتمّ بأصواتنا وهذا أمر واضح وهو ما حصل».