أميركا في "بيتنا" مجدّداً: الكلّ يشحذون سكاكينهم
في وقت تضيق فيه خيارات إسرائيل للتعامل مع تبعات معادلة «وحدة الساحات» التي فرضها «محور المقاومة» في المنطقة، تقع الولايات المتحدة تحت وطأة واقع مشابه مُتخم بالتحدّيات الدولية التي تواجهها على أكثر من «جبهة»، والتي لا تزال تعقّد مساعيها لتكريس «إستراتيجية التوجّه نحو منطقة آسيا-الباسيفيك»، ومجابهة «التهديد الصيني». وبقدْر ما شكّلت حرب أوكرانيا عاملاً رئيسياً في خلخلة تلك الإستراتيجية، لناحية إرباك حسابات واشنطن على المسرح الأوروبي، بصورة اضطرّتها لتوجيه موارد مالية وعسكرية إضافية إلى ذلك المسرح لمواجهة روسيا، جاءت المفاعيل الإستراتيجية لعملية «طوفان الأقصى» لتجرّ الأرجل الأميركية مجدّداً في اتّجاه إقليم دأبت الدوائر السياسية والأكاديمية الأميركية على وصفه بـ«هلال الأزمات»، بعدما انشغلت الولايات المتحدة، طوال العقدَين الماضيَين، في البحث عن سبل تخفّف من حدّة حضورها في حروبه المتناسلة.
«طوفان الأقصى»: المقاومة ترسم «بدايات ونهايات»
تَعدّ مديرة برنامج السياسة الخارجية في «معهد بروكينغز» للدراسات، سوزان مالوني، أن عملية «طوفان الأقصى» عجّلت في «إنهاء الوهم الأميركي بأن الولايات المتحدة قادرة على الانعتاق من التزاماتها حيال المنطقة التي هيمنت على أجندة الأمن القومي الخاصّة بها لقرابة نصف قرن»، مشيرةً إلى أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، وحتى الأمس القريب، كان يدفع في اتّجاه اعتماد «إستراتيجية خروج من المنطقة، انطلاقاً من قناعة مفادها بأن التعقيدات التي تواجهها الولايات المتحدة هناك، تَصرف الانتباه عن التحدّيات الأكثر إلحاحاً التي باتت تفرضها الصين، بوصفها قوّة عظمى صاعدة، فضلاً عن قوّة روسيا الثائرة والمنبعثة من رقادها». ومن هنا، انصبّت مساعي الولايات المتحدة، في سياق سعيها إلى مكافحة النفوذ الصيني داخل عدد من البلدان الحليفة لها أيضاً، على إيجاد ميزان جديد للقوى في الشرق الأوسط، جوهره السعي إلى إبرام «اتفاقات دفاعية» ثنائية مع الرياض وتل أبيب، مقابل الاكتفاء باحتواء التوتّرات مع إيران، وتقديم مغريات اقتصادية محدودة للأخيرة عبر تفاهمات غير رسمية. وتلفت مالوني إلى أن رؤية إدارة بايدن، أهملت تقدير مدى جدّية التوجّه الاقتصادي والديبلوماسي للحكومة الإيرانية نحو تعميق التحالف مع ما يسمّى «محور الشرق»، ذلك أن «هذه الروابط الوثيقة بين الصين وإيران وروسيا لعبت دورها في إنتاج موقف إيراني أكثر عدوانية (تجاه المشروع الأميركي)، بالنظر إلى أن الأزمة في الشرق الأوسط، والتي تشتّت انتباه واشنطن والعواصم الأوروبية، ستنجم عنها بعض الفوائد الإستراتيجية والاقتصادية لكلٍّ من موسكو وبكين». وفي المحصّلة، فإن غالبية الظنّ، في أوساط المحلّلين الغربيين، أن طهران قد صَرفت النظر عن تقديم أيّ تنازلات لواشنطن، وأن المحور الإقليمي الذي تتزعّمه قد عقد العزم على تغيير أُسس النظام الإقليمي برمّته بشتى الوسائل المتاحة لديه، للردّ على المشروع المعادي له.
ومن رحم الخلاصة المشار إليها، فقد بات «استنفار» القوى الكبرى الممتدّ من حدود أوكرانيا إلى تايوان، يظلّل الأزمات الإقليمية، ومنها القضية الفلسطينية، ربطاً بـ«صعود محور المقاومة»، وذلك بصورة مغايرة يطغى عليها طابع «الانعزالية» و«الترقّب»، من جانب تلك القوى. ويبني عدد من الدارسين للعلاقات الدولية، تصوّراتهم في شأن النظام العالمي الراهن، بالاستناد إلى ما أفرزته حرب أوكرانيا، إذ يتشابه هذا الأخير مع الواقع الذي كان سائداً إبّان حقبة الحرب الباردة لناحية انتعاش ظاهرة الحروب بالوكالة، مع فارق جوهري وحيد، وهو أن تورّط معظم الدول الكبرى في المواجهة الأوكرانية، بخاصّة الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، كبّل أيديها في التحرّك أو التأثير المباشر الفاعل في مسار نزاعات أخرى حول العالم، سواءً لغياب عنصر القدرة أو عنصر الرغبة، في مقابل بزوغ قوى إقليمية، من ضمنها إيران وإسرائيل وتركيا، أو تنظيمات مسلّحة، كالفصائل الفلسطينية، تمارس قدْراً من التأثير ضمن نطاق جغرافي محدّد، وبصورة يصعب ردعها. ويحلو لهؤلاء إطلاق توصيف «عصر انشغال القوى الكبرى» على المشهد الحالي على الساحة الدولية، عبر تقديم حالتَي الحرب الأخيرة في ناغورنو قره باغ، والمواجهات الدائرة في غزة، بوصفهما مثالَين حيَّين عن مدى صعوبة انزلاق موسكو وواشنطن، على التوالي، لنصرة حلفائهما على الساحة الدولية، أقلّه حالياً، على هيئة تتخطّى الدعم غير المباشر.
وفي هذا السياق، تَطرح مجلّة «فورين أفيرز» تساؤلاً مفاده: «كيف أثّرت الأزمات في الشرق الأوسط ومناطق أخرى في النظام الدولي؟» قبل أن تعرض إجابة ترصد فيها انصراف القوى الدولية الكبرى عموماً بسبب الحرب في أوكرانيا، عن الخوض في صراعات أخرى، توازياً مع اندفاع فاعلين محلّيين لتغيير «الستاتيكو» بالقوّة. وتنبّه المجلّة الأميركية إلى أن هذا العامل بالتحديد، يدخل ضمن العناصر التي حفّزت حركة «حماس» على مهاجمة إسرائيل، مسهِبةً في عرض حالة الانقسام الداخلي الأميركي، على وقْع انخراط واشنطن في دعم كييف مالياً وتسليحياً، ملمّحةً إلى أن الحرب الدائرة بين «الناتو» وروسيا «نالت جلّ اهتمام إدارة بايدن ورعايتها، على نحو استنزف مواردها، بخاصّة تلك العسكرية من أسلحة وذخائر، الأمر الذي قد يترك تبعات على إسرائيل (التي تخوض حرباً) في الوقت الحالي، أو حتى على تايوان مستقبلاً»، حال تعرّضها لعملية عسكرية صينية.
موسكو وبكين: استثمار حرب غزة ممكن!
في المقابل، فإن ما تَقدّم لا ينفي تحسّب كلٍّ من واشنطن وموسكو لإمكانية انخراطها في صراعات عسكرية جديدة للدفاع عن المصالح الإستراتيجية الخاصة بها. وفي حين تواصل الأولى إغداق الوعود بحماية تايوان ضدّ خصومها الصينيين، فإن الثانية قد وجدت نفسها، تحت وطأة العقوبات الغربية، معنيّةً بتعزيز تحالفاتها الدولية عبر بناء ما يمكن تسميته «حلف المعاقَبين أميركياً» بالتعاون مع عدد الدول، كإيران، وهو ما تتزايد المؤشرات حول طابعه العسكري المتنامي، وآخرها مناورات روسية - صينية - إيرانية جرت في بحر عمان مطلع العام الجاري، وزيارة قام بها وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، إلى طهران قبل أسابيع قليلة، إضافةً إلى ما تشيعه تقارير غربية عن وجود خطط لتأسيس مقرّ قيادة عسكرية بحرية مشتركة للدول الثلاث في ميناء تشابهار الإيراني.
وفي ضوء التأكيد أن حرب غزة ستمثّل اختباراً لمتانة العلاقات الروسية - الإيرانية، يعرب مسؤولون أوروبيون عن خشيتهم من أن تَعمد روسيا إلى استغلال الفوضى الإقليمية الناجمة عن الحرب، للتقرّب أكثر من إيران وفصائل المقاومة المسلّحة، معتبرين أن التصعيد ضدّ إسرائيل لن يسفر عن اندلاع حرب إقليمية متعدّدة الجبهات فقط، بل سيفضي إلى استنزاف إضافي لأموال الغرب وأسلحته، ناهيك عن إضعاف إرادته السياسية ووحدة موقفه. وفي حين يصرّ متابعون للشأن الروسي على أن بوصلة موقف روسيا من القضية الفلسطينية ستبقى مستندة إلى منطق القانون الدولي، ومرجعيات التسوية السياسية للصراع، وإنْ كانت تترك الباب مفتوحاً أمام توافقات محدّدة مع أطراف «محور المقاومة» في ساحات معيّنة كسوريا، يعتقد مدير برنامج أمن الشرق الأوسط في «مركز الأمن الأميركي الجديد»، جوناثان لورد، أن هذا الأمر جائز بالنسبة إلى الروس طالما بقيت إسرائيل بعيدة من التورّط في حرب أوكرانيا، ملمّحاً إلى أن «ذلك النهج قد يتّخذ منحى تصعيدياً أوسع نطاقاً إذا ما حُشرت روسيا في الزاوية في تلك الحرب». ويشير إلى أنه، في هذه الحالة، «سوف تتّجه موسكو نحو تعزيز التقارب مع طهران، ما قد يجعل الإيرانيين في وضع يسمح لهم في مطالبة الكرملين بالمزيد، كالحصول على أنظمة دفاع جوي، وطائرات مقاتلة متطوّرة، أو حتى دعم تقني في برنامجهم النووي». ويتابع لورد محذّراً من أن السيناريو المشار إليه «ستكون له تداعيات مباشرة على الأمن الإسرائيلي، وأمن المنطقة ككلّ».
وتجدر الإشارة إلى أنه، منذ الساعات الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة، حاول الإعلام الغربي إقحام روسيا في المشهد الميداني، تارةً عبر الترويج لمعلومات مغلوطة حول تقديم موسكو دعماً تقنياً لـ«حماس» في مجال المسيّرات، وتارةً أخرى عبر الزعم أن عناصر من الحركة تلقّوا تدريبات على أيدي شركة «فاغنر». وعلى وقع هذه الأنباء، التي تجد من يؤيّدها في صفوف جنرالات الجيش الأميركي، عجّت حسابات الناشطين الروس على مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصّة أولئك الذين يؤيّدون سياسة الرئيس فلاديمير بوتين، بعبارات الثناء على أداء المقاومة الفلسطينية، حتى أن بعضهم هلّل لـ«التحالف» بين روسيا والمحور الذي تقوده إيران في الشرق الأوسط. كما بدا لافتاً، في زيارة وفد رفيع المستوى من حركة «حماس» إلى موسكو، في آذار الفائت، ما جاء على لسان نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، من تحذيرٍ من أن «صبرها إزاء الاعتداءات الإسرائيلية بدأ ينفد».
أمّا الصين، رائدة «ديبلوماسية جمع الأضداد» في المنطقة بعد «اتفاق بكين»، فإن رهاناتها الفلسطينية، وخلافاً لموسكو، تكيل موقفاً «أكثر حرارة» حيال الإسرائيليين، وتكاد تكون محصورة ضمن الأطر السياسية وليس العسكرية، لكونها أقرب إلى الرهان على «طوفان الأقصى» لإقناع حكومة بنيامين نتنياهو بأن سياسة الهروب من استحقاق «حلّ الدولتين»، لم تَعُد ممكنة.
إذا كانت إسرائيل، في معرض استنكارها «إستراتيجية التوجّه شرقاً» وفقاً للمفهوم الأميركي، قد تقصّدت لأعوام خَلت، الإيحاء بقدرتها على «التكيّف» مع بيئة أمنية إقليمية جديدة، بصورة مستقلّة عن «حليفها التاريخي»، وفقاً لما جلّاه مثلاً تباين التصوّرات بينها وبين الولايات المتحدة حيال الملفّ النووي الإيراني، وإصرارها في هذا الإطار على التلويح بخيار عسكري منفرد ضدّ «الجمهورية الإسلامية» (من قبيل كشفها قبل أشهر عن تطوير مديات تحليق طائرات «F-35» من دون الاستعانة بطائرات «KC-135» التي تردّدت واشنطن في تزويدها بها سنوات)، وذلك بالتزامن مع تزايد النفوذ الإقليمي لطهران وحلفائها، فإن ما أنجزته المقاومة الفلسطينية أخيراً، كشف عن هشاشة هذا الاستقلال الإستراتيجي المزعوم لكيان الاحتلال، وأعاد الأخير إلى حقيقة ارتباطه الجوهري والوجودي بالدعم الأميركي. ومن هنا، يَنظر البعض إلى ما جرى في الأراضي المحتلّة بوصفه «نبوءة إسرائيلية» تمّ تجاهلها أميركياً، مستذكرين ما توارد على ألسنة قادة ومحلّلين إسرائيليين، دأبوا على الإعراب عن خشيتهم ممّا عدّوه «إشارات خطأ» يبعث بها مشهد تقليص الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط.
وتشير تقديرات بعض مراكز الدراسات الغربية إلى أن أحداث غزة الأخيرة جاءت بوصفها نتاجاً لعاملَين متعاكسَين، هما: القوة المتعاظمة لطهران، والمرفَقة باتّساع هوامش تحرّك حلفائها في المنطقة، من جهة، وتزايد المؤشرات في الأسابيع القليلة الماضية إلى اقتراب التطبيع بين الرياض وتل أبيب، من جهة أخرى، وما كان ليعنيه هذا من اكتمال «الهندسة الأمنية لشرق أوسط ما بعد أميركا»، والتي تقوم على نشوء محور إقليمي معادٍ لطهران، وتخفيض الوجود الأميركي في المنطقة، ضمن ترتيبات تضمن مصالح واشنطن «بالواسطة»، وذلك توازياً مع جهود مشابهة تعدّ لها الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا بهدف «تشارك الأعباء الأمنية» مع الحلفاء. أمّا في نتائج الحملة التي أعقبت «طوفان الأقصى»، والتي يُحكى عن احتمال تطوّرها إلى اجتياح برّي للقطاع، فيميل معلّقون غربيون، وبنفَس تحذيري، إلى إسقاط واقع حال الولايات المتحدة بعد «11 أيلول» على الواقع الراهن لإسرائيل. آنذاك، انساق الأميركيون خلف نهج انفعالي عنيف في السياسة الخارجية، وأطلقوا شرارة حروب متعدّدة امتدّت على مدى عقدَين من أفغانستان إلى العراق، وقد حملت بعض معالم «الإنجاز الدموي» في بادئ الأمر، قبل أن تنتهي بحصيلة ثقيلة الوطأة على الصعد السياسية والإستراتيجية والاقتصادية كافة، ناهيك عن العسكرية، عنوانها ضياع المشروع الإمبراطوري الأميركي للقرن الحادي والعشرين. إذ استغلّ خصوم الولايات المتحدة الإستراتيجيون، وفي طليعتهم روسيا والصين، انشغال أميركا وقتذاك بحروبها لـ«ملء الفراغات» الناجمة عن التمدّد المفرط في نشاط آلتها العسكرية.
خضر خروبي- الأخبار