حكومة التكنوقراط الفلسطينيّة: لمن القرار السّياسيّ؟

حكومة التكنوقراط الفلسطينيّة: لمن القرار السّياسيّ؟

امين قمورية

ماذا يمكن لحكومة التكنوقراط الفلسطينية أن تقدّم للشعب الفلسطيني من حلول ورؤى للخروج من أزماته المتعدّدة. التي تبدأ بالعدوان الإسرائيلي المستمرّ والمتواصل على قطاع غزة والضفة الغربية، ولا تنتهي بالتهديدات التي تواجهها القدس، وتحديداً المسجد الأقصى فيها.


حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية استقالت من واجباتها تجاه الفلسطينيين قبل أن تقدّم استقالتها رسمياً إلى الرئيس محمود عباس. طبعاً لا يمكن تحميلها كلّ أعباء ما آلت إليه الأمور في الأراضي المحتلّة. ذلك أنّ الأثقال التي أُلقيت على عاتقها أكبر من أن تلقى عليها وحدها بغضّ النظر عن الخلل الإداري والبنيوي والسياسي في تركيبة السلطة وأشخاصها. الظروف الداخلية والخارجية الفلسطينية غير طبيعية. الفلسطينيون يواجهون أخطر إبادة جماعية في التاريخ المعاصر. الضفة الغربية مطوّقة بالنار والحصار. قطاع غزة بحجره والبشر تحرثه محادل القتل والدمار والمجاعة. إسرائيل يقودها الجنون وتضرب عرض الحائط بكلّ المواثيق والأعراف والقرارات الدولية والقيم الإنسانية. وتحدّيات الداخل الفلسطيني تضاهي تلك الخارجية.


حكومة التكنوقراط هل تصلح لفلسطين؟


قدّمت حكومة اشتية استقالتها إفساحاً في المجال لتشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط والأكاديميين ومديري المؤسّسات الاقتصادية الآتين معظمهم من المغتربات. فهل في استطاعة مثل هذه “النخبة” مواجهة هذه التحدّيات الهائلة وإيجاد الممرّ الآمن لإخراج القضية الفلسطينية من أخطر منعطف مصيري تمرّ به منذ 1948؟


حكومة التكنوقراط فكرة تصلح لدولة مستقلّة ومستقرّة لديها نظام سياسي متين ومنظومة اقتصادية متكاملة. على أن تتولّى هذه الهيئة التنفيذية إدارة شؤون الدولة لفترة زمنية محدّدة لمعالجة معضلات اقتصادية واجتماعية محدّدة. على غرار الأزمات المالية أو انحسار الإنتاج أو تراكم الدين العامّ أو تفشّي البطالة أو انتشار الأوبئة والعوارض البيئية. وعادة تكفّ يد حكومات كهذه عن جوهر البرنامج السياسي الذي ترتبط فيه تلك الدولة مع بعدها الإقليمي والدولي. على أن يترك بتّ القضايا المصيرية والسيادية والسياسة الخارجية وقرار الحرب والسلم للهيئات المنتخبة أو لأصحاب السلطة الفعليين بغضّ النظر عن مسمّياتهم.


السلطة الفلسطينية لا تتمتّع حتى الآن بصفة الدولة رسمياً ولا هي مستقلّة تماماً ولم تعرف الاستقرار أبداً. لا هي كيان معروفة حدوده وصلاحيّاته الفعليّة ولا نظامه الضريبي ولا منظومته الاقتصادية. أمّا جوهر الأزمة في فلسطين فهو الاحتلال وفقدان البرنامج الوطني. وليست أزماتها الاقتصادية والاجتماعية المختلفة سوى ظواهر من أزمة العمل الوطني الفلسطيني ككلّ.


التحدّيات المنتظرة لحكومة التكنوقراط


لو افترضنا إتمام إعلان حكومة التكنوقراط العتيدة، أو انصراف أصحاب الاختصاص فيها إلى معالجة الارتدادات السلبية للوضع الفلسطيني المستجدّ كلٌّ تبعاً لاختصاصه، فمن يتولّى إدارة الشأن السياسي الأكثر أهمية؟ ولمن تُترك الكلمة الفصل والقرار الحاسم في العمل الوطني والعلاقات مع الفصائل ومع الخارج؟


– منظمة التحرير الفلسطينية، غير موجودة عملياً في ظلّ وفاة معظم أعضاء لجنتها التنفيذية، وعجز الآخرين عن القيام بمهمّاتهم. وهي بحكم الغائبة والمغيّبة تماماً.



– المجلس الوطني الفلسطيني لم يلتئم منذ أكثر من عشرين عاماً. وهو بحكم المشلول.


– المجلس الاشتراعي الفلسطيني حُلّ بقرار من المحكمة الدستورية عام 2018 ولا يزال منحلّاً.


هذا ما يترك الساحة خالية لمؤسّسة الرئاسة وشخص رئيس السلطة. وبما أنّ محمود عباس صار في وضع لا يحسد عليه في الشارع الفلسطيني، ومرفوض إسرائيلياً. فهنا مكمن الخطورة الأوّل في الذهاب نحو حكومة التكنوقراط في ظلّ عدم وجود غطاء سياسي قويّ ومقبول شعبياً.


أمّا مكمن الخطر الثاني فيتمثّل في أنّ هذه الخطوة جاءت بناء على ضغوط أميركية عبّرت عنها مراراً إدارة الرئيس جو بايدن. وهذه الأخيرة لم تخفِ إصرارها على إجراء تغيير شامل لقواعد النظام الفلسطيني. وأحياناً بما يتوافق مع الرؤية الإسرائيلية لمرحلة ما بعد الحرب على غزة. وذلك على أنقاض الدمار في القطاع وتوسيع الاستيطان في الضفة وعزل القدس وتشديد الحصار الماليّ.


لذلك فإنّ استقالة اشتيّة لم تعد غايتها إصلاح السلطة، بل تغيير وظيفتها ونزع الدور السياسي منها والتركيز على دورها المدني والإداري. وهذا أمر بالغ الخطورة وبمنزلة كارثة على الشعب الفلسطيني. فقد يعزّز هدف إسرائيل التي تريد لهذه السلطة أن تكون شرطيّاً لها على الفلسطينيين وترفع عن كاهلها أعباء التكاليف الباهظة لمواصلة احتلالها المباشر.



والحال هذه ستكون مرحلة ما بعد حكومة اشتيّة أسوأ ممّا قبلها. ذلك أنّ المشكلة ليست في الأشخاص ولا شكل الحكومات أو مسمّياتها، بل في عدم البدء بمعالجة جذر المشكلة وليس العوارض.


أصل العلّة غياب التوافق الداخلي الفلسطيني والبرنامج الوطني المحدّد. ومنطلق الحلّ يبدأ بإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير كممثّل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني يقود المرحلة لحين انتخاب مجلس وطني جديد. على أن تكون المنظمة المجدّدة والمحدّثة ممثّلة لجميع الشرائح والفئات والاتجاهات السياسية والاجتماعية والطبقية، فلا تقتصر على الفصائل والأحزاب وحدها. بل يتمّ توسيعها لتضمّ أصواتاً فاعلة في الدفاع عن القضية وذات صدقية وطنية وخارجية. الأهمّ أن تكون عاكسة لروح الشباب الفلسطيني وحاملة لتطلّعاتهم بعدما تحوّلت اللجنة التنفيذية في السنين الأخيرة إلى مأوى للعجزة الذين لا يملكون سوى الذكريات والحنين للماضي. وبوجود منظّمة فاعلة وحيوية وقادرة على الحلّ والربط يصير اسم الحكومة وشكلها ووظيفتها وطبيعتها تفصيلاً مهمّاً في مشهد أكبر وأشدّ أهمّية.


أيّ خطوة لتشكيل سلطة أو حكومة التكنوقراط من دون وجود مرجعية سياسية معتبرة وموثوقة من الشعب الفلسطيني ستعيد إنتاج الأزمة من جديد. وستكون كتلك النعامة التي ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين!


القضيّة أمام مفترق تاريخي. إمّا أن تدخل نفق التصفية والنسيان، وإمّا أن تظهر إرادة فلسطينية مستقلّة قادرة على اتّخاذ القرارات الكبيرة. وعلى تحويل الدم الفلسطيني المهدور والصمود العجائبي إلى فرصة تاريخية لإحقاق الحقوق الفلسطينية. وأهمّها حقّ تقرير المصير وإقامة دولة فلسطين المستقلّة.