شروط تعجيزية للإعمار: إسرائيل تريد "جنوباً جديداً" بلا سكانه

شروط تعجيزية للإعمار: إسرائيل تريد "جنوباً جديداً" بلا سكانه


التدمير الهائل لمنازل الجنوبيين هدفه منع عودتهم إلى قراهم (خضر حسان)

بين تصاعد حدّة المواقف التي يطلقها العدوّ الإسرائيلي، والحزم الذي يبديه الموفدون العرب والدوليون إلى لبنان إزاء ضرورة الإسراع في حسم ملفّ سلاح حزب الله تمهيداً للاستقرار الأمني، ينتظر أبناء القرى الحدودية مصير عودتهم إلى قراهم. لكن بعد عامين من التهجير بفعل حرب الإسناد، وعام على توسّع الحرب، وبعدها وقف إطلاق النار، قد لا تكون العودة في الصورة المتوَقَّعة، لا سيّما أنّ العدوّ يتحدّث بجدية عن إقامة منطقة عازلة عند القرى الملاصقة للحدود. وتالياً، ينسحب هذا النقاش على جوهر عملية إعادة الإعمار. فهل ستُفَصَّل على قياس العودة إلى ما قبل 8 تشرين الأول 2023، أم ستعكس واقعاً جديداً لن يستوعب جميع أبناء القرى الحدودية؟.

 

 

تمويل بلا شروط مباشرة

شكَّلَ وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024 مناسبة لاتخاذ خطوة في اتجاه إعادة إعمار القرى الحدودية. ولإنجاز الخطوة وفق أسس صحيحة، على القرى الحدودية أن تتمتّع ببنية تحتية صلبة لإنجاز إعمار مستدام. وهو ما دفع مجلس المدراء التنفيذيين للبنك الدولي إلى الموافقة في 25 حزيران 2025، على تقديم قرض للبنان بقيمة 250 مليون دولار، بهدف "تنفيذ أنشطة الاستجابة الفورية اللازمة لتسريع وتيرة التعافي، وتهيئة الظروف الملائمة للعودة إلى الحياة الطبيعية، لا سيما من خلال الإدارة الآمنة والتخطيط السليم للركام والأنقاض، بما يعزز إعادة استخدامها وإعادة تدويرها. كما سيدعم التمويل جهود الإصلاح والتعافي السريع في الخدمات الأساسية، مثل المياه، الطاقة، النقل، الصحة العامة، التعليم والخدمات البلدية. وسيدعم المشروع عملية إعادة إعمار البنية التحتية المتضررة بشدّة، بدءاً بالتصاميم والتقييمات البيئية والاجتماعية التي يتم تمويلها عبر المساهمة الأولية من البنك الدولي"، وفق ما جاء في بيان للبنك.

ووقّعت وزارة المالية اتفاقية القرض في 26 آب 2025. وكان من المفترض أن يقرّها مجلس النواب في جلسة يوم الثلاثاء 28 تشرين الأول الجاري. واعتبر وزير المالية ياسين جابر أنّ "القرض هو مبلغ تأسيسي لإنشاء صندوق لإعادة إعمار البنى التحتية في المناطق المتضررة، ونأمل أن يصل إلى مليار دولار".

لا شروط مباشرة من البنك حول دفع قيمة القرض بعد إتمام المسار القانوني لإقراره. لكن إنجاز هذه الخطوة لا يعني بالضرورة بدء أعمال إعادة إعمار البنية التحتية على الحدود. فهناك عراقيل وشروط مباشرة وغير مباشرة للسماح بإطلاق العملية، تأتي بشكل واضح من إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى. وتندرج العراقيل تحت عناوين عدم السماح لحزب الله باستعادة قدراته وسيطرته على المنطقة الحدودية. لكن هذا الشعار يستهدف سكّان تلك المنطقة ويهدّد عودتهم. وكذلك، فإنّ عدم التوصّل إلى صيغة سريعة للتهدئة تمهيداً للعودة، يؤخّر جذب المزيد من التمويل لمشاريع إعادة الإعمار. فالمبلغ الذي سيقدّمه البنك الدولي لا يسند الخابية حتّى. فالبنك قدَّرَ كلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والمرافق الحيوية وحدها، بنحو 1.1 مليار دولار، فيما قدَّرَ كلفة احتياجات التعافي وإعادة الإعمار بالمجمل، بنحو 11 مليار دولار.

 

 

المكتوب يُفهَم من العنوان

إذا كانت عملية إعادة الإعمار تنتظر انتهاء الحرب والخطر بشكل كامل، فإنّ الخطوة الأخيرة تتحدّد وفق الشروط التي تضغط إسرائيل والولايات المتحدة لتحقيقها في الجنوب. ولم يعد سرّاً الحديث عن إقامة منطقة عازلة في القرى المحاذية للحدود، تكون خالية تماماً من السكّان، بحجّة قطع الطريق أمام استعادة حزب الله حركته في تلك المنطقة التي تمتد من الناقورة إلى كفركلا. وهذا ما يفسّر التدمير شبه الكامل للكثير من تلك القرى، والتي تضمّ علما الشعب، عيتا الشعب، الضهيرة، مارون الراس، عيترون، بليدا، ميس الجبل، حولا، كفركلا وغيرها. أما قرى الخط الثاني الأبعد عن الحدود، فقد تكون هناك ترتيبات تحدّد شكل الحياة التي ستُستعاد فيها، ومنها قرى شمع، البياضة، طيرحرفا، شيحين، عيناتا وغيرها.

وهذه الخطة غير مستجدة، والتُمِسَت مؤشّراتها في خضمّ الحرب. ففي 12 تشرين الأول 2024، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت أنّ "كل قرى الخطّ الأول في لبنان هدف لنا وندمّرها واحدة تلو الأخرى. ولن نسمح لحزب الله بالعودة إلى القرى الحدودية". ومن الجانب الأميركي، كان طرح المبعوث الأميركي توم برّاك واضحاً، حين اقترح تحويل المنطقة الحدودية إلى منطقة اقتصادية، تحت شعار أنّ تنميتها اقتصادياً تسهم في استقرارها أمنياً وتبعدها عن حزب الله وسلاحه. (راجع المدن)

أمّا الزيارة الأخيرة للموفدة الأميركيّة مورغان أورتاغوس إلى الحدود من الجهة الإسرائيلية، فأكّدت أنّ العدوّ ماضٍ في رسم خطّته للمنطقة الحدودية اللبنانية. إذ أطلعَ المسؤولون العسكريون الإسرائيليون أورتاغوس على خرائط تظهر استكمال حزب الله إعادة بناء قدراته العسكرية واستكماله عمليات تهريب الأسلحة عبر الحدود مع سوريا. وبالتالي، فإنّ الإسرائيليين لن يرضوا بعودة القرى الحدودية إلى ما كانت عليه قبل الحرب.

 

 

جنوب جديد

بهذا الواقع، فإنّ إعادة الإعمار وتأمين تمويله مقيّدان بما ستنتهي إليه الاتفاقات السياسية والأمنية. وبموجب ما تضغط إسرائيل لفرضه، فإنّ إعادة الإعمار المنتَظَرة ستتم في "جنوبٍ جديد"، وقد لا تسفر عن بنية تحتية تستوعب إعماراً سكنياً بل إعماراً اقتصادياً مشروطاً بنوع النشاط الاقتصادي وحجمه. وبالتالي، قد لا يستعيد أبناء تلك القرى حياتهم كسكّان يعودون إلى بيوتهم وأراضيهم، بل بوصفهم مستثمرين أو عمّالاً تتحدّد حركتهم وفق اتفاقات ورقابة تديرها لجنة على غرار لجنة مراقبة وقف إطلاق النار (الميكانيزم) التي تراقب الأوضاع على الحدود. ويمكن تصوّر الشكل الجديد للحياة في تلك المنطقة، من خلال مشهد سماح إسرائيل في الفترة الأخيرة للمزارعين بقطاف موسم الزيتون، وإعطائهم مهلة زمنية لإنجاز أعمالهم الزراعية.

وتحضير أرضية القبول بهذا الواقع داخل أروقة السياسة اللبنانية، قد يكون عبر الترغيب بالتمويل والمساعدات، ومنها ما يستهدف تسهيل بقاء النازحين الجنوبيين في أماكن نزوحهم في الداخل، إلى جانب الترهيب باستمرار القصف والاستهدافات، وإطالة أمد الوضع الأمني القائم حالياً لسنوات، مع احتمالات التصعيد، وفق ما تراه إسرائيل مناسباً لها، تحت حجّة التخلّص من خطر حزب الله على حدودها، وعدم قدرة الدولة اللبنانية على ضبط سلاح الحزب.

 

حتّى اللحظة، يبقى الحديث الرسمي في لبنان عن إعادة الإعمار، قائماً حول إعادة الحياة إلى ما كانت عليه في الجنوب قبل الحرب. والناس ينتظرون ضخّ الأموال ليتمكّنوا من العودة إلى قراهم. أمّا الحديث عن منطقة اقتصادية في الجنوب، فمشروط بالنسبة إلى الجنوبيين، بتمكينهم اقتصادياً داخل قراهم، وليس بإبعادهم عنها، وهو الشرارة التي قد تشعل أزمة في الداخل اللبناني، في حال فرض أيّ تقييد مباشر أو غير مباشر لعودة السكّان إلى قراهم الحدودية، إذ إنّ كل ما يُطرح حول مستقبل المنطقة الحدودية، هو شروط تعجيزية تستهدف عدم عودة السكّان.