لا اقتصاد قوي من دون صناعة قوية

بقلم: علي محمود العبد الله، رئيس مجموعة أماكو الصناعية
على مدى عقود، جرّب لبنان أن يبني اقتصاده مستندا إلى قطاعات متعدّدة، من السياحة إلى المصارف وصولا إلى التجارة والخدمات عموما. وفي كل مرة كانت البلاد تواجه أزمة، كانت هذه القطاعات تتهاوى سريعا مع أول هزة مالية، أمنية أو سياسية. وحدها الصناعة كانت تبقى واقفة على قدميها، لتشكل صمّام الأمان للاقتصاد اللبناني، رغم غياب أي دعم فعلي من الدولة، وغياب البيئة المؤاتية للنمو.
هذا الصمود ليس وليد الصدفة، بل نتيجة إيمان الصناعيين العميق بأن الصناعة هي العمود الفقري للاقتصاد، وهي وحدها القادرة على تحويل لبنان من الاقتصاد الهشّ الذي يعتمد على الريع والخدمات، إلى اقتصاد منتج يولّد فرص العمل ويحقق التوازن المالي والنقدي.
اليوم، وبعد مرحلة طويلة من الانكماش الذي بلغ ذروته في العام 2024 مع انكماش نسبته 7.5 في المئة، بدأ الاقتصاد اللبناني في العام 2025 يتنفس من جديد، وثمة توقعات تشير إلى إمكانية وصول النمو إلى 5 في المئة. هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات مالية، بل تعكس بداية تعافٍ حقيقي تقوده القطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها القطاع الصناعي، الذي أثبت أنه الأقدر على تحويل الأزمات إلى فرص.
عهد جديد ورؤية واعدة
التحوّل الذي يشهده لبنان اليوم مع العهد الجديد الذي يقوده رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام، يبعث على الأمل بولادة نهج اقتصادي مختلف، فالدولة بدأت تلتفت إلى القطاع الصناعي باعتباره ركيزة رئيسية للنهوض الاقتصادي الوطني. رعاية الرئيس عون لمعرض الصناعات اللبنانية الذي أقيم مؤخرا لم تكن مجرد خطوة رمزية، بل إشارة واضحة إلى أن بوصلة العهد الجديد تتجه نحو الإنتاج لا الاستهلاك، نحو العمل لا الاتكال.
لقد اجتمع في هذا المعرض أكثر من 190 عارضا يمثلون مختلف قطاعات الصناعة الوطنية، وتجلّت صورة لبنان الحقيقية: بلد يملك العقول، والإرادة، والقدرة على المنافسة العالمية بصناعة وطنية مشرّفة.
والأهم أن كلمات الرئيس عون ووزير الصناعة جو عيسى الخوري في المعرض حملت التزاما واضحا بتحويل الصناعة إلى أساس صلب ورئيسي ضمن رؤية لبنان الاقتصادية، مع التركيز على الصناعات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي والطاقة المستدامة، وهي المسارات التي تحدد اليوم مستقبل الاقتصادات المتقدمة.
وهذا تحديدا ما نركز عليه في مجموعة أماكو، لأن مواكبتنا للتطورات التكنولوجية تتيح لنا دوما البقاء في طليعة الصناعيين الذين يتبنون التكنولوجيا لتعزيز العملية الصناعية كاملة.
واقع صعب لكن الإمكانات جبارة
لكن، لا يمكن لأي رؤية أن تنجح ما لم تواجه الواقع بشجاعة وحكمة واحساس وطني. القطاع الصناعي في لبنان لا يزال يرزح تحت سلسلة من التحديات البنيوية التي يعرفها الجميع: أزمة طاقة خانقة تجعل المصانع تعمل بالمولدات الخاصة والطاقة الشمسية في ظل انقطاع الكهرباء لما يصل إلى 22 ساعة يوميا، وارتفاع كلفة المازوت التي ترفع كلفة الإنتاج. البنية التحتية مهترئة، من الطرقات إلى المرافئ، في حين أن التمويل شبه غائب مع استمرار الانهيار المصرفي والقيود المصرفية، وغياب القروض الصناعية الميسّرة. ولم نذكر بعد التحديات الأمنية الهائلة التي يتسبب بها العدو الإسرائيلي. لكن ورغم ذلك، يواصل القطاع الصناعي اللبناني تصدير منتجاته إلى كل العالم، ويؤمّن عشرات آلاف فرص العمل، ما يعكس صمود الصناعيين وقدرتهم على التكيف رغم كل الظروف.
الحلول.. من الطاقة إلى التمويل
إذا كانت التحديات هائلة ومعروفة، إلا أن الحلول ليست مستحيلة. النهوض الصناعي في لبنان يبدأ من الاستقرار المالي والأمني وتنفيذ إصلاحات تشريعية ومصرفية حقيقية تعيد الثقة بالقطاع المالي وتتيح التمويل للمؤسسات الإنتاجية. ثم يأتي ملف الطاقة، الذي يجب أن يُعالج عبر خطة جذرية كالخصخصة الجزئية أو الاستثمار في الطاقة الشمسية على مستوى المصانع ضمن برامج "التمويل الأخضر"، لأن تأمين الكهرباء 24/7 ليس ترفا، بل شرط حيوي أساسي لأي اقتصاد قوي.
كذلك، يجب تبسيط الإجراءات الحكومية، عبر رقمنة المعاملات وتخفيف البيروقراطية التي تكبّل المستثمرين. ومن الضروري إنشاء صناديق ائتمانية صناعية لتوفير القروض وبفوائد منخفضة لشراء الآلات والمعدات.
ولا يمكن الحديث عن تنافسية عالية من دون سياسة جمركية ذكية، وإجراء مراجعة شاملة لكل الاتفاقيات التي وقعها لبنان مع الدول حول العالم تحقيقا لمصلحتنا الاقتصادية، وحماية المنتجات المحلية من الإغراق، ومنح المواد الأولية والآلات إعفاءات ضريبية.
أما على المدى المتوسط، فيجب التركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية مثل التكنولوجيا، والمستلزمات الطبية، والأدوية، والآلات الصناعية، والصناعات الغذائية، التي يمكنها التخفيف من الواردات وخلق فرص تصدير أوسع. كما أن الاستثمار في البحث والتطوير والتعليم الصناعي ضروري لتأمين كفاءات محلية قادرة على قيادة التحول نحو الصناعة الرقمية والذكاء الاصطناعي.
الصناعة... رافعة الاقتصاد ومفتاح المستقبل
الصناعة ليست مجرد قطاع إنتاجي، بل هي مشروع وطني جامع. وهي القاطرة التي يمكنها مساعدة سائر القطاعات على تحقيق النمو، واسترجاع لبنان لتوازنه المالي. فكل دولار من التصدير الصناعي هو نبض إنتاجي يدخل إلى شرايين الاقتصاد اللبناني، يخفّف من عبء العجز التجاري المزمن ويعيد بعض التوازن إلى ميزاننا المالي.
ولذلك فإن دعم الصناعة ليس منّة، بل هو واجب استراتيجي لحماية الاقتصاد والمجتمع معا. تجارب الدول الصغيرة حول العالم، من سنغافورة إلى إستونيا، تُظهر أن الصناعات المتقدمة والتكنولوجيا هي الطريق الأقصر لبناء اقتصاد قوي ومستدام.
ولبنان، الذي يملك رأسمال بشري ومعرفي كبير، قادر أن يكون مركزا صناعيا رقميا وتكنولوجيا متقدما في الشرق الأوسط، إذا ما توفّر له ما يكفي من الاستقرار والدعم البنيوي.
محكومون بالتفاؤل
أنا مؤمن بأن الصناعة اللبنانية لا تحتاج إلى معجزات، بل إلى رجال دولة أقوياء وإرادة سياسية حقيقية وشراكات دولية ذكية. نحن الصناعيين نعرف جيدا أن لا نهضة مالية من دون إنتاج، ولا توازن نقدي من دون تصدير، ولا استقرار اجتماعي من دون عمل كريم. ولذلك أقولها، وبوضوح: لا اقتصاد قوي من دون صناعة قوية، ولا نهوض اقتصاديا وماليا من دون صناعة لبنانية جبارة.
ومهما حاول البعض الرهان فقط على قطاع الخدمات، فإن لبنان سيبقى رهينة الأزمات ما لم يضع الصناعة في قلب معادلته الاقتصادية.
الصناعة هي حجر الأساس في هيكل الاقتصاد اللبناني، وسر نهوضه، والمعادلة الذهبية للوصول إلى ميزان تجاري صحي، وتحقيق واردات بالعملة الصعبة، واستثمارات أجنبية مباشرة، وترسيخ موقع لبنان الاقتصادي على خريطة الشرق الأوسط.
ولأننا نؤمن بلبنان، سنبقى نصنع فيه، وسنرسخ جذورنا هنا في أرضنا ووطننا.
انتهى. ___________. متابعة. === عايدة حسيني