تقرير شامل حول مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع في لبنان

تقرير شامل حول مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع في لبنان

الملف الإستراتيجي

الإطار الهيكلي والمنطلقات الفلسفية لمشروع القانون

​يمثل مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، الذي أطلقته الحكومة اللبنانية في ديسمبر 2025، منعطفاً تاريخياً في مسار الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد منذ عام 2019. إن هذا المشروع، الذي أعلن عنه رئيس مجلس الوزراء نواف سلام في كلمته الموجهة للبنانيين في التاسع عشر من ديسمبر 2025، لا يعد مجرد وثيقة تقنية لتوزيع الخسائر، بل هو خيار سياسي وأخلاقي يهدف إلى الانتقال من حالة إنكار الفجوة المالية إلى الاعتراف بها ومعالجتها ضمن الإمكانيات المتاحة.12 يتألف المشروع من بنية تشريعية تهدف بشكل رئيسي إلى وضع إطار عام للانتظام المالي، وإعادة الملاءة للنظام المصرفي بما يشمل مصرف لبنان، وتنقية الأصول من العمليات غير المنتظمة، وتحديد التزامات الدولة تجاه المصرف المركزي وإعادة هيكلتها.

تستند فلسفة المشروع إلى مبدأ الإنصاف وحماية الفئات الأكثر ضعفاً، حيث تم تصنيف المودعين والودائع بناءً على حجمها ومصدرها وتاريخ تكوينها. ويحدد القانون “الودائع الجديدة” بأنها تلك المحررة بالعملة الأجنبية والتي دخلت النظام المصرفي بعد 17 أكتوبر 2019، بينما تخضع الودائع السابقة لإطار معقد من المعالجات. إن الهدف الاستراتيجي من هذا التقسيم هو عزل الأموال التي دخلت النظام في ذروة الأزمة وضمان سيولتها، مع وضع خارطة طريق طويلة الأمد لاسترداد الودائع القديمة.

​تتضمن البنية المالية للمشروع آليات مقترحة لضمان الاستدامة، منها إعادة تقييم أصول مصرف لبنان بواسطة شركة تدقيق دولية مستقلة لتحديد حجم الفجوة المالية بدقة، وهو إجراء طال انتظاره ويمثل استجابة لمتطلبات صندوق النقد الدولي. ويتبع ذلك إجراء مراجعة شاملة لجودة الأصول (AQR) لكل مصرف تجاري بصورة مستقلة، مما يسمح بتحديد حجم تآكل الرساميل والالتزامات المتبادلة بين المصارف والمصرف المركزي.

تظهر التحليلات العميقة لبنية المشروع أن الاستدامة المالية لا تعتمد فقط على الأرقام الدفترية، بل على قدرة الدولة على إعادة جدولة ديونها السيادية. ينص القانون على تحويل دين مصرف لبنان على الدولة إلى سند دائم بفائدة تبلغ 2%، مما يخفف الضغط الفوري على الخزينة العامة ولكنه يضع أعباء طويلة الأمد على الأجيال القادمة. كما أن المشروع يسعى لتقليص الاعتماد على الاقتصاد النقدي (Parallel Economy) الذي نما بشكل مفزع خلال سنوات الأزمة، مما ساهم في تفشي غسل الأموال وضعف الرقابة الضريبية.

​تحليل آليات إعادة التوازن والملاءة للنظام المصرفي

​يشكل الباب الثاني من مشروع القانون الركيزة التقنية لإصلاح القطاع المصرفي المنهار. تبدأ العملية بإلزام مصرف لبنان، خلال شهر واحد من نفاذ القانون، باتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة تقييم أصوله المالية لتحديد حجم الفجوة من قبل شركة تدقيق دولية. هذه الخطوة تعتبر حجر الزاوية في أي خطة تعافٍ، حيث أن عدم اليقين بشأن أرقام المصرف المركزي كان العائق الأكبر أمام المفاوضات الدولية.

​تخضع المصارف التجارية لتقييم مماثل (AQR) يهدف لتحديد حجم الخسائر المحققة وتخفيض رساميلها مقابل الخسائر الناتجة عن التزاماتها مع مصرف لبنان. ويفرض المشروع على كل مصرف، بغض النظر عن نتائج التقييم، إعادة الرسملة بواسطة أدوات الشريحة الأولى (Tier 1) وفقاً لمقررات بازل III، وذلك خلال مهلة خمس سنوات. إن هذا التوجه يضع المساهمين الحاليين أمام خيارين: إما ضخ أموال جديدة أو مواجهة إجراءات الهيئة المصرفية العليا التي قد تشمل الدمج أو التصفية وفقاً للقانون رقم 23/2025.

​تتمثل إحدى أهم ميزات هذا الباب في تطبيق مبدأ تراتبية توزيع المسؤوليات وتحمل الخسائر (Hierarchy of Claims). تبدأ هذه التراتبية بالمساهمين العاديين، ثم المساهمين المفضلين، وصولاً إلى الدائنين الأعلى مرتبة. ومع ذلك، يبرز هنا تناقض قانوني أشار إليه المجلس الدستوري في طعنه الجزئي على القانون 23/2025، حيث اعتبر أن إعطاء صلاحيات واسعة للهيئة المصرفية العليا في الاستثناء من المساواة بين الدائنين من نفس الرتبة يمثل انتهاكاً للدستور.

​يمكن التعبير عن نموذج إعادة الرسملة المطلوب رياضياً لضمان كفاية رأس المال (CAR) وفق معايير بازل III:

حيث يسعى المشروع لإجبار المصارف على الوصول إلى هذه النسب تدريجياً، مع منحها فترة سماح للتكيف مع تدهور الأصول.

​تؤكد الرؤية التحليلية أن ربط إعادة التوازن بتنقية الأصول يهدف إلى ضمان أن الأموال التي سيتم ضخها في النظام المصرفي لن تستخدم لتغطية “ثقوب سوداء” ناتجة عن عمليات غير نظامية سابقة. ويسمح القانون للمصارف التي تظهر فائضاً في موجوداتها يغطي ودائعها بالكامل أن تطلب الخروج من إطار أحكام هذا القانون وتسديد الودائع مباشرة بموافقة مصرف لبنان، مما يفتح الباب أمام استعادة الثقة في المؤسسات المصرفية القوية.

العدالة المالية والحوكمة: تنقية الأصول والمساءلة

​تعد تنقية الأصول غير المنتظمة أحد أكثر جوانب المشروع إثارة للجدل، حيث تهدف إلى تصحيح الانحرافات المالية التي حدثت قبل وبعد اندلاع الأزمة في أكتوبر 2019. صنف القانون الأصول غير المنتظمة إلى سبع فئات رئيسية تشمل التحويلات المصرفية التي تجاوزت 100 ألف دولار وقام بها كبار المساهمين وأعضاء مجالس الإدارة والمدراء التنفيذيون وأقاربهم بعد تاريخ 17 أكتوبر 2019. كما يشمل ذلك التحويلات التي قام بها الأشخاص المعرضون سياسياً (PEPs) وفق تعريف مجموعة العمل المالي (FATF) والتي تفتقر لمبرر تجاري أو صناعي أو صحي واضح.

​تتجسد الحوكمة الرشيدة في هذا السياق من خلال فرض غرامة استثنائية بنسبة 30% على تلك التحويلات في حال عدم إعادتها خلال ثلاثة أشهر من نفاذ القانون. ويتم تحويل مبالغ هذه الغرامات إلى “حساب تسديد الودائع” في مصرف لبنان. ومن منظور العدالة المالية، يسعى المشروع لاسترداد الفوائد المفرطة التي نالها أصحاب الحسابات نتيجة الهندسات المالية أو أي فوائد مدفوعة منذ عام 2016 تتجاوز السقوف المعقولة، حيث يتم إجراء قيد عكسي بقيمة هذه الفوائد لصالح المصرف.

 إن دمج مبادئ الشفافية يظهر من خلال إلزام المصارف بإجراء “مراجعة معززة” (Enhanced Due Diligence) لسجلاتها وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة عن أي حسابات مشبوهة، مع منح لجنة الرقابة على المصارف سلطة التأكد من تنفيذ هذا الموجب. ومع ذلك، يرى نقاد أن هذه الإجراءات قد تصطدم بعوائق قانونية، حيث أن بعض هذه العمليات تمت بموافقة ضمنية أو تعاميم صادرة عن مصرف لبنان نفسه، مما يفتح باب الطعون القضائية تحت ذريعة الاستقرار التعاقدي.

​تعتبر معالجة الحسابات التي شهدت زيادة في أرصدتها عن طريق تحويل الليرة إلى دولار بأسعار صرف غير رسمية (أو شراء الشيكات المصرفية) أحد أهم أدوات الحوكمة في المشروع. يتم إعادة تقييم هذه الزيادات بناءً على جداول زمنية محددة ترفع سعر الصرف تدريجياً من 1500 ليرة وصولاً إلى السعر الرائج في تاريخ نفاذ القانون، مما يهدف لإلغاء الأرباح الوهمية التي تحققت على حساب المودعين الآخرين.

التوافق مع المعايير الدولية ومتطلبات صندوق النقد الدولي

​يمثل التوافق مع متطلبات صندوق النقد الدولي (IMF) الممر الإلزامي للبنان للحصول على حزمة تمويل تقدر بـ 3 مليارات دولار على مدى أربع سنوات. لقد زارت بعثة من الصندوق بيروت في سبتمبر 2025 لتقييم التقدم المحرز في الإصلاحات، وأكدت أن استعادة النمو المستدام تتطلب تنفيذ إصلاحات طموحة لمعالجة نقاط الضعف الهيكلية.

​يشير تحليل مطابقة مشروع القانون لمتطلبات الصندوق إلى تقدم ملحوظ ولكنه يظل منقوصاً في بعض الجوانب الجوهرية. يشدد الصندوق على ضرورة “الاعتراف المسبق بالخسائر” (Upfront Loss Recognition) في المصارف الخاصة ومصرف لبنان، مع ضمان حماية صغار المودعين والحد من استخدام الموارد العامة. ويدعو الصندوق إلى إجراء 11 تعديلاً على قانون إصلاح المصارف (الذي أقره البرلمان في يوليو 2025) لتقريبه من المعايير الدولية، خاصة فيما يتعلق بعملية الطعن في قرارات الهيئة المصرفية العليا وتجنب الاستنسابية في توزيع الخسائر.

 من أبرز نقاط الخلاف التقنية بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي هي مسألة حماية الودائع؛ فبينما تقترح الحكومة سقفاً موحداً قدره 100 ألف دولار لكل مودع على مستوى النظام المصرفي ككل، يفضل الصندوق مقاربة “مصرف بمصرف” (Bank-by-Bank) لضمان عدم تحميل المصارف السليمة أعباء المصارف المتعثرة. كما يطالب الصندوق بإلغاء تمثيل الهيئات الاقتصادية وجمعية المصارف في الهيئة المصرفية العليا لتجنب تضارب المصالح و”الارتهان السياسي” (Political Capture).

يقترح الخبراء تحسينات إضافية لضمان الاعتماد الدولي، تشمل مواءمة معايير التدقيق المحلية مع المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS 9) بشكل كامل، وتعديل المادة 113 من قانون النقد والتسليف لضمان إعادة رسملة مصرف لبنان لمستوى “الصفر” على الأقل لتمكينه من تنفيذ مهامه النقدية. إن الفشل في تحقيق هذه المعايير قد يؤدي إلى استمرار “الشلل المالي” وتصنيف لبنان كدولة تفتقر لإرادة الإصلاح الجدية.

بناء الثقة المستقبلية: آليات الرقابة والمساءلة

​تعتبر استعادة ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي بلبنان المهمة الأكثر تعقيداً، وهي تتطلب ما هو أبعد من النصوص القانونية إلى الممارسة الفعلية للرقابة والمساءلة. يساهم مشروع القانون في هذا الإطار من خلال بناء نظام رقابي متعدد الطبقات. تلعب الهيئة المصرفية العليا (HBC) دوراً مركزياً بموجب القانون 23/2025، حيث تتألف من غرفتين: الأولى للعقوبات، والثانية لإصلاح الوضع المصرفي وإعادة التنظيم.

​تتضمن آليات المساءلة المقترحة مراجعة تاريخية للعمليات المصرفية تعود إلى عشر سنوات مضت (منذ 2015)، مما يسمح باسترداد الأرباح المحققة بشكل غير قانوني قبل الأزمة. إن رفع السرية المصرفية يمثل الأداة التنفيذية لهذه المراجعة، حيث يمكن للهيئات الرقابية والمحققين الدوليين الوصول إلى أسماء العملاء وأرصدتهم وسجلاتهم المصرفية كاملة.

​تساهم الآليات التالية في بناء الثقة:

​هيئة التحقيق الخاصة: تفعيل دورها في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، خاصة مع إقرار حظر التعامل مع مؤسسات مالية غير مرخصة مثل “القرض الحسن”.

​المدققون الدوليون: إلزامية التدقيق الخارجي لمصرف لبنان ولكل مصرف تجاري، مما يضفي مصداقية على الأرقام المالية.

​نظام الشهادات المدعومة بأصول (ABS): تحويل الودائع إلى أوراق مالية قابلة للتداول ومدعومة بأصول حقيقية (مثل الذهب والعقارات) يمنح المودعين قيمة فعلية بدلاً من مجرد أرقام دفترية مجمدة.

​ومع ذلك، تبرز تحديات الحوكمة في تكوين الهيئة المصرفية العليا نفسها، حيث يهيمن مصرف لبنان على نصف أعضائها، مما يثير مخاوف بشأن استقلالية القرار. إن استعادة الثقة تتطلب فصلاً واضحاً بين السلطة الرقابية والمصرف المركزي، وضمان حماية القضاة الذين ينظرون في قضايا الفساد المالي من التدخلات السياسية.

​تشير تقارير الاستثمار لعام 2025 إلى أن لبنان لا يزال يمتلك إمكانيات جذب الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) من خلال المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات (إيدال)، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والخدمات، ولكن هذا مشروط بتوحيد سعر الصرف وإلغاء القيود على تحويل الأموال (Capital Control). يهدف مشروع الانتظام المالي إلى توفير هذه الأرضية القانونية الصلبة لإنهاء “عصر الفوضى” والانتقال إلى مرحلة “التعافي المنظم”.

آلية استرداد الودائع: التقسيم الفني والجدول الزمني

​يعالج الباب الرابع من المشروع قضية استرداد الودائع من خلال آلية متدرجة توازن بين السيولة المتوفرة وحقوق المودعين. تم تقسيم الودائع المتكونة قبل 17 أكتوبر 2019 إلى فئات تعتمد على حجم الرصيد الإجمالي للمودع في النظام المصرفي ككل.

الودائع الصغيرة والمتوسطة

​يستهدف القانون إعادة كامل الودائع التي تقل عن 100 ألف دولار أميركي، والذين يمثلون نحو 85% من إجمالي المودعين. يتم السداد بالدولار الأميركي نقداً على مدى أربع سنوات، بموجب دفعات سنوية متساوية تبدأ بعد شهر من نفاذ القانون. أما الودائع التي تتراوح بين 100 ألف ومليون دولار، فيحصل صاحبها على 100 ألف دولار نقداً وفق نفس الجدولة، بينما يتم تحويل الرصيد المتبقي إلى شهادات مالية مدعومة بأصول من الفئة (A).

الودائع الكبيرة والضخمة

​بالنسبة للحسابات التي تتجاوز مليون دولار وتصل لغاية 5 ملايين، يحصل المودع على الـ 100 ألف دولار النقدية، ويحول الباقي لشهادات فئة (B). أما الحسابات التي تفوق 5 ملايين دولار، فيحول رصيدها المتبقي لشهادات فئة (C).

تحمل هذه الشهادات فائدة سنوية بسيطة بنسبة 2%، وتستند في تغطيتها إلى “صندوق استرداد الودائع” الذي يديره مصرف لبنان. يضم الصندوق أصولاً متنوعة تشمل إيرادات الذهب والمعادن الثمينة، ومحفظة العقارات، وحصص مصرف لبنان في شركات كبرى مثل طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان، بالإضافة إلى مساهمة حكومية بقيمة 10 مليارات دولار عبر إصدار سندات.

​يثير طول فترة استحقاق الشهادات (تصل لـ 20 عاماً) تساؤلات حول القيمة الحالية للنقود (Time Value of Money). إن استرداد مليون دولار بعد 20 عاماً بفائدة 2% فقط يعني خسارة كبيرة في القوة الشرائية الفعلية نتيجة التضخم العالمي. لذا، يسعى القانون لمنح هذه الشهادات ميزة القابلية للتداول في الأسواق الثانوية، مما يسمح للمودعين ببيعها بخصم معين للحصول على سيولة فورية، أو استخدامها كضمانات للقروض.

التحديات والفرص: تقييم العقبات واستراتيجيات التغلب عليها

​يواجه تنفيذ مشروع الانتظام المالي حزمة من التحديات المعقدة التي قد تعيق مساره التشريعي أو التنفيذي. تأتي في المقدمة المعارضة الشرسة من “جمعية مصارف لبنان” (ABL)، التي تعتبر أن المشروع يلقي كامل المسؤولية على البنوك والمودعين مع تبرئة الدولة. ترى الجمعية أن تحميل المصارف عبء سداد الـ 100 ألف دولار النقدية سيؤدي إلى إفلاسها وتصفيتها، وتطالب بدلاً من ذلك بإلزام الدولة والمصرف المركزي بإعادة عشرات مليارات الدولارات التي استدانوها من أموال المودعين.

العقبات السياسية والقانونية

​التمثيل السياسي في البرلمان: يمتلك العديد من النواب مصالح مباشرة في المصارف أو هم من كبار المودعين، مما قد يؤدي لتعطيل إقرار القانون أو إفراغه من مضمونه الإصلاحي.

​الطعون الدستورية: إن التمييز بين المودعين (قبل وبعد 2019) وبين أنواع الودائع قد يُعتبر مخالفاً لمبدأ المساواة الدستوري وحق الملكية الفردية، وهو ما حذر منه خبراء قانونيون والمفكرة القانونية.

​ربط القوانين ببعضها: قرر المجلس الدستوري أن قانون إصلاح المصارف لا يمكن تنفيذه إلا بصدور قانون الانتظام المالي، مما يخلق حالة من “الارتباط التسلسلي” الذي قد يؤدي للشلل في حال تعثر أي منهما.

الفرص الكامنة واستراتيجيات التعظيم

​رغم هذه التحديات، يوفر المشروع فرصاً غير مسبوقة لإعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني:

​استعادة دور القطاع المصرفي: إن تنقية الميزانيات العمومية تسمح للمصارف السليمة بالعودة لتمويل الاقتصاد الحقيقي وتحفيز النمو المتوقع بنسبة 3.5% في 2025.

​جذب التمويل الدولي: إقرار القانون هو المفتاح الذهبي لفتح صناديق المساعدات من البنك الدولي والمانحين العرب، مما يساعد في تغطية تكاليف إعادة الإعمار المقدرة بـ 11 مليار دولار.

​تطوير سوق رأس المال: إن إصدار الشهادات المدعومة بأصول (ABS) قد يساهم في ولادة سوق مالية لبنانية حديثة ونشطة، تتجاوز الاعتماد التقليدي على الودائع.

​للتغلب على العقبات، يقترح المشروع استراتيجية “المسار الواقعي”، التي تقوم على الاعتراف بالخسائر تدريجياً وتجنب الانهيار الفوضوي للنظام. كما يتم تعزيز المساءلة عبر ملاحقة الأموال المهربة، مما يمنح المشروع غطاءً شعبياً وأخلاقياً يواجه به ضغوط اللوبيات المصرفية.

الاستنتاجات والتوصيات لتطوير المشروع

​إن مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع يمثل المحاولة الأكثر جدية لإنهاء حالة التيه المالي التي دامت ست سنوات. ومن خلال التحليل الفني والمالي المعمق، يمكن استخلاص جملة من التوصيات لتعزيز فعالية هذا المشروع وضمان توافقه مع المعايير الدولية واستدامته المستقبلية:

التوصيات الفنية والرقابية

​استكمال مراجعة جودة الأصول (AQR) فوراً: لا يمكن بناء خطة استرداد دقيقة دون معرفة حجم الفجوة الحقيقي في كل مصرف. يجب أن تشرف لجنة الرقابة على المصارف بمساعدة مدققين دوليين على هذه العملية لضمان عدم تلاعب الإدارات المصرفية بالبيانات.

​تعديل حوكمة الهيئة المصرفية العليا: لضمان الحياد، يجب تقليص نفوذ مصرف لبنان داخل الهيئة وزيادة تمثيل الخبراء المستقلين والقضاة، مع استبعاد ممثلي جمعية المصارف تماشياً مع مطالب صندوق النقد الدولي.

​تحسين هيكلية الشهادات المدعومة بأصول (ABS): يجب ربط هذه الشهادات بعائدات مشاريع إنتاجية كبرى (مثل قطاع الغاز أو الطاقة المتجددة) لتعزيز قيمتها السوقية وتقليل خصم التداول في السوق الثانوية، بدلاً من الاعتماد فقط على أصول عقارية جامدة أو أرباح الذهب.

التوصيات القانونية والعدلية

​توحيد معايير “الوديعة المؤهلة”: لتجنب الطعون الدستورية، يجب وضع معايير قانونية واضحة وموحدة للتمييز بين الودائع، مع التركيز على شرعية مصدر الأموال بدلاً من مجرد التاريخ الزمني، وضمان عدم المساس بالحقوق الأساسية لصغار المودعين.

​تفعيل ملاحقة الأموال المهربة: يجب أن تترافق تنقية الأصول مع تعاون دولي لاسترداد الأموال التي حولت بشكل استنسابي من قبل كبار المساهمين والسياسيين، واستخدام هذه الأموال كرافد أساسي لصندوق استرداد الودائع.

​ختاماً، إن الانتقال من “اقتصاد الظل والسيولة النقدية” إلى “اقتصاد الانتظام والشفافية” هو المسار الوحيد لاستعادة سيادة لبنان المالية. إن نجاح هذا المشروع مرهون بالإرادة السياسية لتنفيذه بعيداً عن المصالح الفئوية، وبالتنسيق الوثيق مع المؤسسات الدولية لضمان تدفق التمويل اللازم لبدء رحلة التعافي الطويلة. إن لبنان اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء نظامه المالي على أسس من الحوكمة والعدالة، وهي فرصة قد لا تتكرر في المدى المنظور.