أوقِفوا التفاوض...
على فداحتها، ورغم كل ما تختزنه من امتهان للكرامة الوطنية، تبقى «إسرائيلية» الوسيط الأميركي، عاموس هوكستين، أهوَنَ الشرور في مسألة ترسيم الحدود البحرية الجنوبية (بين لبنان وفلسطين المحتلة). القبول به وسيطاً، إهانة لكل ما يحمله مفهوم السيادة من مضامين وقيم وشروط. لكن ذلك ليس أسوأ ما في الأمر. أصل المشكلة مكان آخر.
يبدأ التفريط اللبناني من ارتضاء أن تكون الولايات المتحدة، المنحازة تماماً إلى العدو، وسيطاً بين لبنان وإسرائيل. يتعامل صنّاع القرار في بيروت مع هذا الخيار بصفته بديهية غير قابلة للنقاش، وشأناً لا يجوز الاعتراض عليه. يكذبون على أنفسهم وعلى اللبنانيين، إلى حد إيهامهم بأن نتيجة هذه المفاوضات ستكون، على عكس المقدّمات، لمصلحة لبنان وأهله!
يفعل أهل الحل والعقد ذلك بذريعة حاجة لبنان للتنقيب عن الغاز. وبهذه الذريعة، لا يتورعون عن إسقاط الثوابت، وتهديد حقوق اللبنانيين والأجيال المستقبلية، وتجاوز أي معايير علمية لترسيم الحدود... والأهم، التعامل مع قضية شديدة الخطورة كترسيم الحدود الجنوبية، من دون طرحها على النقاش العام، والاكتفاء بالسعي إلى نيل رضى «الوسيط الأميركي»، بدل حشد الطاقات الداخلية، الشعبية والعلمية والعسكرية، لتدعيم الموقف الوطني. فاللجوء إلى خيار التفاوض، لا يعني التخلّي المسبق عن كل أوراق القوة، بل تعزيزها و«اختراع» بعضها أحياناً، لفرض صون السيادة.
والحقوق هي المفتاح هنا. حتى اليوم، ورغم كل ما أثير حول ما يحقّ للبنان، وما لا يحق له، من مساحات قرب الحدود الجنوبية، لم يخرج مسؤول لبناني واحد ليقول للبنانيين إن «هذا» هو حقنا، بموجب «هذه» المعايير، وسنفعل «كذا» لتثبيته. لا يبدو أحد مكترثاً لرأي الناس. القصة كل القصة تكمن في تنفيذ ما تريده واشنطن. قبل نهاية العام الماضي، قرّر الأميركيون أن علينا الجلوس على طاولة واحدة مع العدو، فامتثلت السلطة. أراد دونالد ترامب «صورة» يضيفها إلى مجموعته الخاصة بقطار التطبيع. صحيح أن لبنان لم يمضِ نحو التطبيع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إلا أنه لامس حدّه. رحل دونالد ترامب، وسكن جو بايدن البيت الأبيض، وأرسل لنا وسيطاً إسرائيلياً قال إن علينا وقف التفاوض «غير المباشر» في الناقورة، فامتثلت السلطة مجدداً. لم يفسّر لنا أحد جدوى مفاوضات الناقورة، ولم يشرح لنا أحد أسباب عدم استمرارها. ربما وجب علينا شكر هوكستين، الإسرائيلي، لأنه أعفانا من ذل استقبال وفد إسرائيلي في الناقورة، رغماً عنا. لكن يجب أيضاً عدم الاسترسال في الشكر. فالوفد الإسرائيلي كان يصل بسيارات الأمم المتحدة، إلى مقر تابع للأمم المتحدة أيضاً، قرب الحدود. «أنقذنا» الأميركيون من ذلك، لكنهم استبدلوه بمندوب إسرائيلي ينتقل من قصر رئاسي إلى آخر، ومن سرايا إلى وزارة. كان العدو على بُعد أمتار من الحدود، وإذ بنا نجده بيننا في العاصمة.
الخطورة ليست محصورة في كون لبنان يستند إلى وساطة العدو للتفاوض مع العدو، ولا في أن المسؤولين لم يصارحوا الناس، ولو ليحشدوهم في هذه المعركة. الخطورة أيضاً نابعة من أن لبنان الرسمي نفسه لا يعرف ماذا يريد. والانطباع العام بشأن أداء المسؤولين الرسميين المعنيين بالقضية، شديد السلبية. وبصرف النظر عن مدى تطابق هذا الانطباع مع الواقع، يبقى أن كثيرين مقتنعون بأن رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، يريد استعمال المفاوضات لتحسين علاقته بالأميركيين، وبخاصة بعد العقوبات على النائب جبران باسيل؛ وبأن الرئيس نبيه بري يخشى المزيد من العقوبات على مقربين منه بعدما نالت العقوبات من معاونه السياسي الأقرب النائب علي حسن خليل؛ وبأن الرئيس نجيب ميقاتي يريد استخدام التفاوض لضمان عودته إلى رئاسة الحكومة من جهة، ولضمان عدم تصويره متنازلاً عن الحقوق اللبنانية يوم وقّع مرسوم الحدود الجنوبية عام 2011.
الكارثة عمرها أكثر من 10 سنوات. حكومة لبنان أخطأت في ترسيم حدوده، وعندما أرادت الحكومات اللاحقة تصحيح الخطأ، فعلت ذلك بصورة ملتبسة، يراها مختصون كثر مبنية على خطأ تسبّب بتنازل عن مياه لبنانية. الأزمة اليوم ليست في الانطباع وحده. فأركان السلطة الذين يصعب جمعهم على طاولة واحدة، يبدون مشتتين في مقاربة هذه القضية الوطنية، ولم يتعاملوا معها بصورة مغايرة لما يقومون به دوماً. هي بالنسبة إليهم كملف الكهرباء مثلاً، أو الاتصالات، أو المالية العامة والانهيار الاقتصادي أو تلوّث المياه... وهنا تحديداً مكمن العلة. فقياساً على سبل «معالجة» هذه الأزمات، للبنانيين أن يتخيلوا ما ستُنتجه السلطة نفسها في قضية ترسيم حدود وثروات محتملة. هذه السلطة التي لم تجرؤ على اعتراض «الأمر» الأميركي بعقد مفاوضات الناقورة، ولا على تعيين إسرائيلي للوساطة بين لبنان وإسرائيل، ولا أحد فيها قادراً على مواجهة اللبنانيين ليقول لهم إن «هوكستين ليس إسرائيلياً» أو «أنه إسرائيلي لكن لا نكترث لأنه يمثل هنا حكومة الولايات المتحدة».
ad
في السنوات السابقة، تخلّت السلطة السياسية عن قضية الترسيم لحساب قيادة الجيش. والأخيرة تمسّكت بدراسة أعدّتها فرقها المختصة (هذه الفرق تضم ضباطاً يكاد يُجمِع متابعو قضية الترسيم على حرفيتهم)، تُثبت أن حصة لبنان من المياه الجنوبية أكبر من تلك المحددة في المرسوم الصادر عام 2011. لكن السلطة السياسية لم تتبنّ، حتى اللحظة، هذه الدراسة. وبدلاً من حسم المسألة، قرّر ميقاتي الاستعانة بشركة دولية لترسم لنا خط حدودنا الجنوبية! لماذا تجاهل وجود فرق عسكرية في الجيش اللبناني، مختصة بالحدود البحرية؟ لا أحد يعلم!
المشكلة هنا لا تقتصر على موقف «مبدئي» من التفاوض مع العدو، ولا على موقف أيديولوجي متصل بالعداء لإسرائيل، ولا بموقف وطني من «إسرائيلية» هوكستين. «الكارثة» تتجاوز ذلك إلى معيار المصلحة الوطنية. فأداء السلطة لا يُؤشر إلى أن هذه العملية ستنتهي بحفظ حقوق لبنان: «الدولة» لم تحدّد حقوقنا، ولا سقف التفاوض، ولا كيفية إدارته، ولا عيّنت نقاط قوتنا ومتى ينبغي وضع ورقة ما على الطاولة وتوقيت سحبها وظروفه. يُضاف إلى ذلك أن الوسيط هو العدوّ عينه. بهذه الشروط، يُراد لهذا التفاوض أن يُثمر ما يسرّنا!
بناءً على ما تقدّم، فلنفترض جواز التخلي عن كل المواقف الأيديولوجية، والتعامل مع القضية برمّتها من منطلق مَصلحيّ بحت. لأجل المصلحة الوطنية العليا، قبل أي شيء آخر، ينبغي للمفاوضات أن تتوقف، وألا تُستأنف إلى أن يتحسّن موقع لبنان التفاوضي، أو أن تقرر السلطة تحديد الحقوق وإعلانها، ثم الاتفاق على وجهة تثبيت هذه الحقوق، والسعي إلى حشد الشعب خلفها، والاستناد إلى قوة المقاومة لمنع العدو من الاعتداء على الحقوق اللبنانية. أما مستعجلو التنقيب عن النفط والغاز في البحر اللبناني، فأمامهم أكثر من 90 في المئة من المنطقة الاقتصادية الخالصة. السعي إلى حشر لبنان في أقل من 10 في المئة من مياهه، واعتبارها تضم المكامن الوحيدة للثروة الأحفورية - والبناء عليه لاستعجال التفاوض مع العدو كيفما اتفق - لا يدل على حُسن تدبير، هذا إن حسُنت النوايا.