«ست نايلة - ليكس»

«ست نايلة - ليكس»

رند وهبة

«مؤسسة رينيه معوض» من أقدم المؤسسات غير الحكومية التي تمرر المشاريع الأميركية في لبنان بوجه محلي. ورغم أن المؤسسة لا تلعب دوراً مباشراً في العملية الانتخابية، إلا أنها تشكل حملة انتخابية متواصلة، ويتركز عملها في الشمال، ويشمل قطاعات حيوية، اجتماعية وخدماتية وتخطيطية وقانونية وإدارية، إضافة إلى مساعدات ومعونات تقدمها المؤسسة.

في وثائق «ويكيليكس»، كتب السفير الأميركي جيفري فيلتمان، في 05-10-2006، عن لقاء جمعه بالسيدة نايلة معوض وابنها ميشال، أكد فيه الأخير أن الهدف السياسي للمؤسسة هو احتضان المسيحيين «الأيتام سياسياً»، بينما ركزت الأم على ضرورة توسعة عمل «مؤسسة العائلة» لمواجهة المساعدات الإيرانية.

السيدة نايلة عيسى الخوري معوض شخص مفتاحي لفهم هذه المؤسسة. فهي التي أسستها عام 1991 على اسم زوجها الراحل، الذي اغتيل بعد 17 يوماً من تقلده رئاسة جمهورية ما بعد الطائف. وكانت معوض، ولا تزال، محركاً رئيسياً في المؤسسة بفرعيها اللبناني والأميركي. إذ تتقلد رئاسة الفرع الأول، وتتولى منصباً فخرياً في الفرع الأميركي، لكن نشاطها في الفرعين يبدو واضحاً عبر الموقعين الرسميين.

محورية «ست نايلة»، كما يدعوها فيلتمان، تفسر أموراً كثيرة، منها «الكرم» الأميركي في تمويل المؤسسة، ودعمهم لمسار الحياة السياسية لابنها ميشال. والسيدة نايلة امرأة طموحة لا تخفي ذلك، وقد عبّرت أمام صحافية مصرية عن توقها لتولي منصب رئاسة الجمهورية أكثر من مرة، ووصفها السفير الأميركي في أحد تقاريره بأنها من بين «المتأملين الرئاسيين» (presidential hopefuls)، ويبدو أنها اليوم تحضر ابنها لتحقيق أحلامها التي خابت. لكن المشكلة أنها تحضره من خلال سلوك الدرب الأميركي الخائب نفسه.

عدد من تسريبات «ويكيليكس» لمراسلات السفارة الأميركية أتت على ذكر السيدة معوض، أهمها اثنان، الأول في 07-08-2006 في تقرير لفيلتمان حول لقائه مع «القادة المسيحيين» لمناقشة حرب تموز، والثاني بعد تسعة أيام في تقرير عن لقاء بينها وبين السفير في شقة شقيقتها في بعبدا (يقول إنها كانت تسكن هناك لدواع أمنية). في التسريبات تتحدث «ست نايلة» من دون قفازات أو تحفظ، وتؤكد لفيلتمان أنها لا تهتم باتهامات 8 آذار لـ 14 آذار بالوقوف مع إسرائيل إذ سبق أن دعيت بـ «غولدا مائير طرابلس»، وقد اعتادت ذلك. في هذا التسريب تحرّض معوض الأميركيين على الحلفاء والأفرقاء، وتتسوّل منهم المساعدات، وتعتب على إسرائيل لأدائها المخيب، وتبدي نفساً طائفياً إلغائياً.

وصف فيلتمان نايلة معوض بأنها من بين «المتأملين الرئاسيين» (presidential hopefuls)

في العنوان الأول، لم يسلم طرف من الست نايلة. فقد طالت النميمة الحذقة كلاً من وليد جنبلاط ومروان حمادة، كما انتقدت رئيس الحكومة في حينها فؤاد السنيورة بأشكال مختلفة، منها أنه غير مهني ويفتقد إلى الرؤية والفعالية وأن حكومته غارقة بالفساد، كما حرضت على كل من وزير الدفاع الياس المر ووئام وهاب وطلال إرسلان والعماد ميشال عون واتهمتهم بقبض أموال من السوريين. وهي ادعاءات حتى الأميركي لم يأخذها على محمل الجد في الوثيقة السرية، وعدّها ضرباً من «التفكير المؤامراتي اللبناني المعتاد». وعند الحديث عن سليمان فرنجية، علق السفير الأميركي في تقريره بأن ذلك يأتي ضمن «الجو السياسي الماروني الشمالي القاتم»... وحتى الوليد بن طلال لم يسلم من شكاوى «الست» للسفير الأميركي. وبين من حرضت عليهم أيضاً الرئيس إميل لحود الذي طالبت الأميركيين بالتدخل المباشر لإخراجه من السلطة، ولفتت انتباههم إلى أنه «من الممكن الحصول على عذر لذلك» من خلال نبش ملفات فساد حوله، عن طريق علاقة مزعومة لابنه بفضيحة النفط مقابل الغذاء وبنك المدينة.

في العنوان الثاني، أي التسول، نفهم لماذا بالغت «الست» في تصوير فريق 8 آذار كطرف غني ومترف إلى حد لم يصدقه الأميركي. إذ تقول للسفير ما معناه أن فريق 8 آذار يغرق في المال السوري، بينما فريقنا محبط عاطفياً ومالياً. ثم تأتمنه على «سرّ خاص جداً»، وهو أنها اضطرت لبيع أراضي والدها وزوجها، قبل أن تعود للتسوّل مرة أخرى، ولكن من منطلقات دعم فريقها السياسي. وأنت تقرأ التسريبات سترى السيادة والاستقلال يتقلبان ويتلويان ألماً في زاوية معتمة خلف «السيدة الأولى».

في ما يتعلق بحرب تموز، العنوان الثالث، فقد عبرت السيدة معوض عن خيبتها لتأخر الاجتياح البري والاستعجال بالانسحاب، واعتبرت أن إسرائيل خرجت من دون أي إنجاز يذكر. وفي جلسة أخرى مع «مجموعة من القادة» شدّدت معوض على وجوب ضرب حزب الله بقوة حتى يضعف ويذعن لـ«صوت العقل»، وطالبت بنشر قوات الأمم المتحدة على الشريط الحدودي بين سوريا ولبنان لأن الجيش اللبناني برأي «المجموعة» (التي ضمت بطرس حرب وأمين وبيار الجميل ودوري شمعون وفارس سعيد وجورج عدوان) ليس على قدر المهمة (مهمة عزل المقاومة عن سوريا).

كل هذا التحريض لم يمنع السيدة التي كانت وقتها وزيرة للشؤون الاجتماعية من دعوة الأميركيين إلى دفع حكومة السنيورة الخاملة للتحرك سريعاً وإعادة الإعمار، لتظهر المقاومة بمظهر القوة المدمرة الشريرة، وتكون الدولة في المقابل القوة البناءة الخيّرة. وقد عبّرت عن انزعاجها من إعطاء حزب الله مساعدات للعائلات المتضررة من الحرب واصفة العملية بحركة سياسية واضحة وبديهية. اقتراح «الست نايلة» لتدخل الدولة في إعادة الإعمار محصور بالجنوب حيث ستكون «قدرتهم» أكبر على الاختراق، واقترحت أن تكون عملية إعادة الإعمار قائمة على الديون المنخفضة الفائدة للإسكان والقروض الصغيرة للأعمال الصغيرة. هنا يتدخل السفير الأميركي في المراسلة السرية بتعليق طريف يخبر فيه القارئ أن إعادة الإعمار والإسكان هما من مهام وزارتها بالتحديد، وهذه الوزارة معروف عنها أنها في جيب الرئيس نبيه بري.

ولكن يبدو أن للسيدة معوض دوافع أخرى. فهي تريد عودة النازحين الشيعة بأسرع ما يمكن إلى بلداتهم كما ورد في التقرير الأول، وأن المسألة أبعد من الجانب الإنساني، لأن هناك خوفاً من أن «الشتات الشيعي» سيربك النسيج الطائفي للبلد خصوصاً في الشوف والشمال. وبحسب تعبيرها كما نقله فيلتمان «التحكم بهم في المدن سيكون أصعب من التحكم بهم في بلداتهم». وأضافت أنه في ظل هذا الوضع «قريباً سأضطر إلى لبس الشادور في بيروت».

وعندما جاء وقت العمل على الأرض انقلبت الآية، فقد أقامت السيدة الأولى حفلاً في ولاية فرجينيا لجمع التبرعات لإعادة الإعمار، وقتها تساءل بسام القنطار في مقال له في جريدة «الأخبار»، إن كانت فعلاً ستجرؤ على إعادة إعمار المناطق المتضررة والتي لحزب الله نفوذ فيها. وفيما لا يوجد أي دليل أين صرفت تلك التبرعات، يبدو أن الضاحية والجنوب لم يستحقا عطف وزيرة الشؤون الاجتماعية في نهاية الأمر، فبحسب موقع المؤسسة ذهب مشروع إعادة الإعمار الوحيد لإعادة إعمار مدارس في مناطق جبل لبنان وشماله.

وهكذا فالطائفية الإلغائية هي العنوان الرابع والأخير الذي ترسمه لنا التسريبات عن شخصية السيدة معوض رئيسة مؤسسة رينيه معوض التي تجمع التبرعات لـ«الحفاظ على الأمل» «معاً»، وتدعي مساعدة كل اللبنانيين وحماية أمن ووحدة واستقلال كل لبنان.

في الخلاصة، رئيسة المؤسسة تتآمر مع الخارج ضد أعدائها وحلفائها، وتغطي على الفساد حيث يحلو لها، وتنبشه حيث يحلو لها، وتحرض على قتل وتشريد أبناء بلدها، وتحاول الاستفادة السياسية والمادية - بحسب ما يلمح السفير - من مأساتهم وإعادة الإعمار، وتكنّ ضغينة طائفية مُرّة لثلث الشعب اللبناني.