لماذا الهروب من الاستحقاقات؟
حتى إشعار آخر، تقول الرواية، أن لا حكومة جديدة الآن ولا من يحكمون، وأن لا رئيس جديداً قريباً ولا من يرئسون، وأنّ عيون الجميع شاخصة على البحر حيناً وعلى الاقليم في كل الأحيان، وإذ بالدعوات إلى «الحياد» تبدو أصواتاً بلا اصداء، في عالم بات منشغلاً كلياً عن لبنان بمشكلاته وهمومه، لولا ملف ترسيم الحدود البحرية الذي للمهتمين به مصلحة فيه يمكن ان تعالج لهم تلك المشكلات.
على هذا الأساس يترقب الجميع في الداخل والخارج حركة الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين المنقطع الأنفاس والغائب عن الأسماع والأنظار منذ اكثر من ثلاثة اسابيع، وسط كلام من هنا وهناك عن انّه آتٍ إلى لبنان قبل نهاية آب الجاري، حاملاً جواباً اسرائيلياً على ما كان حمله في زيارته الاخيرة التي تلقّى فيها موقفاً لبنانياً موحّداً يتمسك بحقوق لبنان وحدوده الخط 23 والبلوكات 8 و9 و10 بلا نقصان، مضافاً إليه نتوء في حقل قانا الذي يختلف فيه الترسيم بين سطح الماء وقعرها، والذي للبنان حق التصرف فيه كيفما كان هذا النتوء وفقاً لقوانين البحار، وهو ما يحاول الاسرائيليون المجادلة فيه، محاولين ان يأخذوا بديلاً منه ممراً لـ»أنبوبهم الاوروبي» تجنّباً لكلفة إمراره العالية في وادٍ بحري سحيق، والبالغة حسب تقديرات الخبراء ما يفوق الـ 30 مليار دولار.
هذا في البحر، أما في البر السياسي اللبناني، فهناك خلاف على «الترسيم الحكومي» إذا جاز التعبير، وهو ترسيم يفرضه «ترسيم» الاستحقاق الرئاسي الذي تبدأ مهلة إنجازه مطلع ايلول المقبل وتنتهي في 31 تشرين الاول بانتخاب رئيس من عدمه. ولكن، وتحت وطأة الشروط والشروط المضادة يتعثر «الترسيم الحكومي» منذ حزيران عند التشكيلة التي قدّمها الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، والتي لم تظهر حتى الآن اي ملاحظات رسمية علنية لرئيس الجمهورية عليها، باستثناء ما تسرّب من بعض القريبين منه او من رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل وصحبه، وهي ملاحظات خُلِطت ببعض المطالب والشروط في تعيينات ومرسوم تجنيس دُبّر بليل وانطوى، حسب قول البعض، على تنفيعات وانتفاعات مغلفة برغبة بمنح الجنسية اللبنانية لرجال أعمال كبار واصحاب استثمارات كبرى، من شأنها ان تفيد لبنان في سعيه إلى الخروج من ضائقته وانهياره، وهو كلام لا يعدو كونه عبارة عن «شراء سمك في بحر» ليس معروفاً حجمه ولا إمكانية توافره.
الّا انّ هذه المسألة الحكومية المعقّدة هي بالنسبة إلى البعض، لا الكل، محاولة للاستحواذ على رئيس الجمهورية المقبل «أيكون تحت قبضتي او قبضتك»؟ ام يكون رئيساً للبنان كله، راعياً لمسيرة خروجه من أزمته الكبرى على كل المستويات، متسلّحاً بدعم جامع يفترض ان يقدّمه له الجميع، فيقود السفينة معهم إلى شاطئ الخلاص.
بعض القوى السياسية لا تخفي في مطاوي شروطها ومطالبها الحكومية رغبة في ان يكون الرئيس العتيد في صفوفها، وإذا تعذّر عليها ذلك، تريده ان لا يكون حرّ التصرف بما يشاء وكما يشاء، فيظل محكوماً بمشيئتها في اي خطوة يخطوها، مع العلم انّ من يسعون إلى رئيس من هذا النوع فاتهم الادراك انّ رئيس جمهورية ما بعد «اتفاق الطائف» جعله الدستور راعياً وحَكَماً بين المؤسسات لا طرفاً فيها، وليس صاحب القرار بمعزل عن السلطة التنفيذية الجامعة أي مجلس الوزراء الكلي التمثيل، الذي منحه دستور «الطائف» الصلاحيات التنفيذية التي كانت لرئيس الجمهورية قبله ولم يمنحها لرئيس مجلس الوزراء الذي منحه الدستور صلاحية الإشراف على السياسة العامة للحكومة، وجعل كل وزير رأس الهرم في وزارته، لكن من دون ان يتصرف على هواه وبما يتعارض وسياسة الحكومة وبما يتقدّم على رئيس الحكومة المسؤول الاول عن هذه السياسة.
لكن بعيداً من هذا كله، فإنّ اصل الموضوع يلخّصه السؤال: ماذا يمكن لحكومة سيكون عمرها شهرين ونيف إن أُلّفت اليوم ان تفعل في هذه العجالة، وهل يمكن لعهد ان يحقق خلال هذه الفترة ما لم يتمكن من تحقيقه طوال 6 سنوات؟ ثم هل من فارق بين تأليفها من عدمه وبين استمرار حكومة تصريف الاعمال في «الاطارالضيّق» إلى حين انتخاب رئيس جديد؟
دستورياً ينبغي تأليف حكومة جديدة لسببين: الاول إنجاز الاصلاحات المطلوبة محلياً واقليمياً ودولياً في إطار خطة التعافي وخارجها، حتى يتمكن لبنان من إبرام بعض الاتفاقات مع المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، وبالتالي تلمّس طريق الخروج من الانهيار. والسبب الثاني، ان تتولّى هذه الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية في حال تعذّر او تأخّر انتخاب رئيس جديد، حتى لا يكون هناك تشكيك من اي جهة داخلية او خارجية بدستورية تولّي حكومة تصريف الاعمال صلاحيات رئاسة الجمهورية.
لكن البعض، وبينهم دستوريون، يردّون على هذه الاسئلة بالقول، انّ عدم تأليف حكومة جديدة، وبالتالي عدم انتخاب رئيس جمهورية جديد، ليس فيهما «خراب البصرة»، لأنّ لا شيء إسمه فراغ في اي دولة او نظام في العالم مهما كانت الظروف التي تمرّ فيها. فدائماً هناك حل يحفظ استمرار الدولة والنظام والمؤسسات إلى حين اعادة انتاج السلطة المفقودة.
على انّ ذهاب البعض إلى ربط مصير هذين الاستحقاقين الدستوريين بالاوضاع الاقليمية والدولية والمفاوضات الجارية هنا وهناك، ما هو سوى محاولة تعمية عن الحقائق الدامغة، وهروب من تحمّل المسؤولية إلى الامام من هذين الاستحقاقين لغايات ومصالح شخصية او مبنية على ما يمكن عليه مستقبل لبنان في ضوء الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة، والمنتظر تبلورها في ضوء نتائج المفاوضات الاقليمية والدولية الجارية من فيينا إلى بغداد وما بينهما من عواصم عربية واجنبية.
وإلى «ان يكتب الله أمراً كان مفعولاً» وتتألف حكومة جديدة، يعتقد سياسيون انّ هروب البعض من الاستحقاقين الحكومي والرئاسي إلى رهانات على متغيّرات اقليمية ودولية يخفي بروز خوف وجودي كبير لديهم، لأنّ لبنان الذي عاشوه منذ عشرات السنين وتنعموا بخيراته بفساد او غير فساد قد انتهى، وانّ لبنان جديداً آتٍ ولن يكون لهم وجود سياسي فيه، حتى الذين يحاولون الهروب مما تورطوا فيه من مسؤولية عمّا آلت اليه البلاد عبر ارتداء لبوس الاصلاح ورفع شعارات مكافحة الفساد الذي كانوا شركاء فيه، لن يسلموا من هذه الكأس، «فالشمس شارقة والناس قاشعة»، وكل معروف بأصوله وفروعه وحسبه ونسبه وممارساته، سواء عندما كان في السلطة او بعدما خرج أو أخرج نفسه منها. فهؤلاء لا يريدون لا تأليف حكومة ولا انتخاب رئيس لا الآن الآن وليس غداً، لأنّهم يحضّرون للغد شيئاً آخر علّهم يغيّرون ما هم مقبلون عليه من أقدار، ولكنهم على الأرجح لن يفلحوا، لأنّ الدمار الشامل الذي حلّ بالبلاد على كل المستويات لن يمرّ هذه المرة بلا محاسبة من تسببوا به، إذا لم يكن اليوم ففي الغد. أليس الصبح بقريب..؟
وفي رأي هؤلاء السياسيين، انّ بعض القوى التي تحاول النأي بنفسها عن الاستحقاق الرئاسي او تحاول تجييره لمصلحتها وترفع شعارات في شأنه، تدرك جيداً انّها غير قابلة للتطبيق، لأنّ الرئيس، أي رئيس، لا يمكن ان يكون الًا توافقياً حتى ولو تدخّل فيه كل اهل الارض. لكنها تبدو وكأنّها تلعب اوراقها الاخيرة، محاولة تغيير مجرى الاوضاع، بما يجنّبها خطر الزوال سياسياً في المرحلة المقبلة. وهذه المرحلة ستكون مرحلة الثواب والعقاب إزاء ما حلّ بالبلاد. فهل يمكن لجريمة نهب المال العام بمئات وربما آلاف المليارات من الدولارات على مدى عشرات السنين ان تمرّ تحت عنوان «عفا الله عمّا مضى»؟ وهل يمكن لجريمة السطو على اموال المودعين التي دمّرت اجيالاً واجيال ان تُمحّى بـ»»شخطة قلم» لدى ادارات الدولة ومصرف لبنان والمصارف؟ وهل يمكن لجريمة الكهرباء التي صُرف لأجلها اكثر من 40 مليار دولار، وهو مبلغ يكفي لإضاءة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، وانتهت الحال الى العتمة الشاملة؟
لذلك، يرى المتابعون انّ كثيرين سيكونون في الغربال في المرحلة المقبلة، لأنّ انهيار البلاد بهذا النحو الخطير لا يمكن ان يمرّ بلا حساب وعلى حساب اللبنانيين، فهناك جريمة ارتُكبت بحق شعب بكامله وبكل فئاته ومكوناته، وليست جريمة فردية يمكن ان تُعالج بدفع «دية» القتيل.
ولذلك، فإنّ كل من شارك في هذه الجريمة الكبرى يحاول الهروب إلى الامام، ولكن إلى متى؟
ولذلك أيضاً، فإنّ اقرب الحلول واسهلها لخروج لبنان إلى برّ الأمان واستعادة العافية الداخلية والثقة العربية والدولية، هو ان تكون هناك معادلة «تسوية او محكمة» ولا شيء بينهما. تسوية تُلزم من سرقوا البلد بردّ ما سرقوه، او محكمة تُنزل بهم عقاباً يردّ المسروق ويجعلهم عبرة للحاضر والمستقبل، ولكل من يريد للبلد ان يحيا مجدداً، بلداً تسوده العدالة ودولة القانون وحكم المؤسسات التي تخدم الجميع اياً كانت انتماءاتهم، وتقيم دولة الانسان لا دولة الطوائف والاحزاب المتعايشة التي تتقاسم خيرات البلاد وتفرّق بين ابناء الشعب الواحد. وعلى هذا الأساس ينبغي ان تُنجز الاستحقاقات الحكومية والرئاسية وغيرها. وإن لم يكن كذلك فإنّ لبنان سيمضي إلى ان يصبح دولة فاشلة، بل دولة مارقة بكل معنى الكلمة.
طارق ترشيشي- الجمهورية