هل يكرّر الحزب غلطة الأسد؟

هل يكرّر الحزب غلطة الأسد؟

الكاتب: وليد شقير | المصدر: اساس ميديا

19 تشرين الثاني 2022

تقول الرواية إنّ الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي سأل نظيره السوري بشار الأسد، في أحد لقاءاتهما قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية اللبنانية ونهاية ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود، عام 2004: “ما الذي تنوونه بالنسبة إلى الرئاسة في لبنان؟”. أجابه الأسد: “لم نتّخذ قرارنا بعد”.


كانت المحادثات الإيرانية – السورية آنذاك تتمحور حول التنسيق بين البلدين في مواجهة الاحتلال الأميركي للعراق، وفي شأن المطالب الشهيرة التي طرحها وزير الخارجية الأميركي كولن باول على الجانب السوري، ومنها ابتعاد دمشق عن طهران، وإبعاد “حزب الله” عن إسرائيل، وعدم التدخّل في العراق.


خاتمي وجان عبيد والأسد ولحّود


ألحق خاتمي سؤاله بآخر للأسد عمّا إذا كان يفكّر في وزير الخارجية (الراحل) المرشّح للرئاسة جان عبيد. كان الرئيس خاتمي تعرّف إلى عبيد الواسع الثقافة وأُعجب بسعة أفقه وشخصيّته الرصينة وانفتاحه وميزاته الحواريّة. فالرئيس الإيراني السابق كان يتابع الوضع اللبناني الداخلي وسبق أن زاره وزيراً للخارجية قبل تولّيه الرئاسة في إيران، وكان شغوفاً بالحيّز الثقافي الذي يتمتع بع الرجل. حتى إنّ ترشّح خاتمي للرئاسة في إيران انطلق من لبنان عام 1996 حين اشترك في ندوة طرح خلالها فكره السياسي الإصلاحي والمنفتح في ندوة عن كتاب له في معرض أنطلياس للكتاب. وتقول الرواية أيضاً إنّ دمشق كانت أعطت لعبيد أكثر من إشارة إيجابية بأنّها تؤيّد تولّيه الرئاسة، ثمّ تراجعت عن ذلك.


أجابه الرئيس السوري بما معناه أنّ جان عبيد شخص جيّد، “لكن نفضّل رئيساً شبيهاً بالرئيس إميل لحّود”.


حينذاك مارست دمشق مع حلفائها وخصومها سياسة التكتّم عمّن تريد للرئاسة في لبنان، وتصرَّف الأسد حيال من يحاولون استكشاف المواقف من المرشّحين، بكثير من الريبة والقسوة كما فعل مع الرئيس الراحل رفيق الحريري حين استدعاه مطلع ذلك العام، وأبلغه بصلافة أنّه هو من يقرّر من يأتي رئيساً للبنان، قاطعاً الطريق على أيّ محاولة للحريري وغيره لتزكية أيّ اسم، فانتهى صيف ذلك العام بالتمديد للحّود في الرئاسة 3 سنوات (تفاصيل تلك المرحلة روتها مراجع عدّة أبرزها وقائع محاكمة المتّهمين باغتيال الرئيس الحريري). وذلك لأنّ الأسد لم يأمن لأيّ مرشّح آخر غيره في الرئاسة، في وقت كان يخوض معركة شرسة مع الولايات المتحدة الأميركية بعد احتلال العراق، بالتعاون مع إيران.


كانت علاقة لحّود بالوصاية السورية تقوم على قاعدة اعتمدها الرئيس الأسبق لضمان راحة البال من زعل دمشق: لا أرفض لهم طلباً.


هل تجوز مقارنة أو تشبيه تلك المرحلة التي قادت لبنان إلى أيام سود بالمرحلة الراهنة لأنّ الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله ذكر أنّ الرئيس لحّود والرئيس المنتهية ولايته العماد ميشال عون كان يأمن أن يدير لهما ظهره، مطالباً برئيس لا يخاف من أميركا ولا يطعن بالظهر؟


الحزب يتشدّد رئاسيّاً وعينه على انتفاضة الإيرانيّين  


يصعب على متابعي المناخ الإقليمي المحيط بالاستحقاق الرئاسي اللبناني أن يفصلوا بين تشدّد قيادة الحزب في مواصفات الرئيس “الذي نريده” كما قال رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد، وبين المستجدّات في الموقف الغربي، والأميركي تحديداً، حيال انتفاضة الشعب الإيراني المتواصلة تصاعداً منذ أسابيع، وصولاً إلى فرض واشنطن والاتحاد الأوروبي عقوبات على زهاء 30 شخصية أمنيّة وقضائية وكيانات معنيّة بالقمع الوحشي للتظاهرات التي تعمّ المحافظات والمدن الإيرانية منذ مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني في تموز الماضي. بل إنّ أحد الوزراء المصنّفين بأنّهم يسايرون طهران لا يتردّد في القول إنّ تشدّد “حزب الله” حيال مواصفات الرئيس العتيد يرتبط بتطوّر الموقف الغربي عموماً من انتفاضة الشعب الإيراني، بصرف النظر عمّا ستؤول إليه.


قد لا تتشابه التداعيات أو لا تتطابق الأحداث بين عام 2004 وعام 2022، لأنّه ليس مطروحاً التمديد للرئيس الذي يأمن الحزب له مع انتقال الرئيس عون إلى منزله، بعدما هشّمته ثورة 17 تشرين وحمّلته مسؤولية رئيسة عن الانهيار الذي شهده البلد، وكسب أعداء كثراً، إلى درجة بات من سابع المستحيلات السعي إلى استمرارية عهده بترئيس صهره النائب جبران باسيل.


 


انقلاب المراهنة على التفاهم مع طهران


إلا أنّ من أوجه التشابه انقلاب المراهنة الغربية الأميركية على الاتفاق مع إيران بالتفاوض معها على الملف النووي، وعلى ضمان حدّ أدنى من الاستقرار الإقليمي، إلى تباعد يزداد اتّساعاً حتى إشعار آخر، يمثّل ذروته التي يُحتمَل أن ترتفع أكثر ردُّ الفعل الإيراني المتشنّج حيال التعاطف الغربي مع الانتفاضة الإيرانية الداخلية، الذي تعتبره طهران خطّاً أحمر، وكذلك الحزب، لأنّ أفقه التشجيع على تغيير النظام، وبالحدّ الأدنى إضعافه كي يعود عن سياسة تصدير الثورة ودعم أنظمة موالية له في الإقليم، التي يسمّيها الغرب “دور إيران السلبي في زعزعة الاستقرار الإقليمي”.


إنّه الوجه الآخر لمطالب وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول من الأسد التي كانت تقصد “تغيير سلوك” الرئيس السوري بدلاً من تغيير النظام.


كان العديد من اللبنانيين قد أملوا انعكاس تراجع المراهنة الغربية على اتفاق مع إيران إيجاباً على بلدهم، ولا سيّما بعد تساهل حزب الله في اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وهذا ما لم تترجمه وقائع عدّة في الأسابيع الماضية:


– انحياز إيران إلى روسيا في حرب أوكرانيا، وتسليمها موسكو مسيَّرات متطوّرة ساعدتها على قصف مواقع أوكرانية وضرب البنى التحتية، في وقت يشتدّ الاستقطاب العالمي مذكِّراً بمخاطر تفوق انقسام الحرب الباردة.


– انقلاب التعايش الأميركي – الإيراني في العراق عبر حكومة مصطفى الكاظمي، إلى حكومة رئيسها محمد شياع السوداني، تتبع الحشد الشعبي الموالي لإيران، الأمر الذي بدأت واشنطن تتململ منه، مهدّدة بعدم التعامل مع الوزراء الذين ينتمون إلى “الميليشيات”، وإدانتها للقصف الإيراني المتواصل لمناطق كردستان العراق، ردّاً على الانتفاضة في المناطق الكردية في إيران.


– جمود المفاوضات السعودية – الإيرانية التي كانت ترعاها بغداد.


– فشل تمديد الهدنة في اليمن وعودة الحوثيين إلى التصعيد العسكري وضرب حصار على تعز وغيرها من المدن، مع العودة إلى استهداف السفن العابرة لخليج عُمان، وإمساك البحرية الأميركية بسفن تهرِّب أسلحة إيرانية للحوثيين.


– استمرار الرفض الأوروبي والأميركي لاشتراط طهران رفع العقوبات عنها قبل إنهاء التفاهم على ما تبقى من نقاط عالقة في الاتفاق النووي، وفشل محاولات فتح كوّة في أفق التفاوض المسدود عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية.


– عودة طهران إلى سياسة قديمة جديدة تقوم على إمساك رهائن عبر توقيف مواطنين غربيين، ولا سيّما فرنسيين، للتفاوض عليهم من أجل الإفراج عن أرصدة مالية.


على الرغم من أنّ قلّة من الفرقاء اللبنانيين المعارضين للنفوذ الإيراني في البلد جاهرت بتضامنها مع الانتفاضة الإيرانية، فإنّ ردّ فعل حزب الله على الدور الأميركي والغربي في لبنان يشبه الخشية من أن تنجح الضغوط الأميركية على نظام الأسد عام 2003 بالتمدّد إلى لبنان، في تقليص نفوذه فيه عبر انتخاب رئيس للجمهورية يراعي توازنات العلاقات الداخلية والخارجية للبلد. وإنّ قول النائب رعد إنّ الرئيس الذي “يأتي به الخارج (الغرب) لن يكون مهما طال الزمن”، هو الوجه الآخر لمواصفات الرئيس الذي “لا يرفض طلباً” للحزب في ظرف إقليمي حرج كالظرف الراهن.


عون بعد لحّود… وتمديد الحالة السابقة


ينطبق الأمر على الرئيس عون. فالأخير كان شديد الحرص على إرضاء حزب الله في الشاردة والواردة في الرئاسة، على قاعدة التسليم بمقتضيات الاندفاعة الإيرانية إقليمياً، مقابل حصوله على تأييد الحزب لإمساك فريقه بالسلطة في الداخل. فالرئيس المنقضية ولايته أدرك أهميّة التناغم، قبل أن ينجح الحزب في إيصاله إلى الرئاسة. وتقول الرواية أيضاً إنّ عون كان أبلغ زعيم تيار “المستقبل” رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري حين تفاوضا في لقاء باريس الشهير عام 2015، وسأل الأخير عون عن موقفه من “حزب الله” إذا تولّى الرئاسة، أنّ “الجماعة لا يمكن اللعب معهم”، قاصداً أنّه يصعب عليه الخروج عمّا “يريده” الحزب. كان هذا تعبيراً صريحاً عن أنّ عون “يخاف” من الحزب أكثر ممّا يخاف من غيره. وهذا الوجه الآخر لإصرار الحزب على رئيس لا يخاف الأميركيين.


هل يكرّر حزب الله غلطة الأسد، أي التمديد للحّود الذي شرّع لبنان على أحداث كارثيّة، لم يتمكّن من النهوض من أضرارها بعد، عبر التمديد للحالة الرئاسية السابقة بالمجيء بمن يماثلها سياسياً؟


ثمّة أمر آخر هو من أوجه الشبه والاختلاف في الوقت نفسه مع مرحلة إصرار الأسد على التمديد للحّود على الرغم من صدور القرار 1559 آنذاك. فإذا كان صحيحاً أنّ جزءاً من انتفاضة 17 تشرين (2019)، لم يكن ضدّ حزب الله، لمسؤوليّته عن واقع اقتصادي ماليّ ومعيشي مأساوي جرّاء شراكته مع العهد العوني ورعايته له، فإنّ الصحيح أيضاً أنّ الحراك الشعبي، الذي حصل في عام 2005 ضدّ الوجود السوري، جاء حصيلة تراكم سنوات من القهر المخابراتي الذي أهان وقمع الطبقة السياسية اللبنانية وفرض عليها الخيارات الهجينة. وقد يكون للتسبّب بالفراغ الرئاسي حالياً لفرض الرئيس الذي “نريد” المفعول نفسه وربّما أكثر على الصعيد الشعبي، إذا لم تحصل تسوية يتنازل فيها الحزب عن الأبعاد الإقليمية لشروطه الرئاسية.