المسيحيون والرئاسة: الناخب الأضعف بشهادة التاريخ والحاضر

المسيحيون والرئاسة: الناخب الأضعف بشهادة التاريخ والحاضر

الكاتب: ألان سركيس | المصدر: نداء الوطن

28 شباط 2023

لم يشهد لبنان يوماً أن فرض المكوّن المسيحي رئيساً للجمهورية. فمنذ جمهورية الإستقلال لم يأتِ الممثل الأول للمسيحيين إلى الحكم كما يتمنّون، حتى ظهرت مقولة شهيرة قبل الحرب الأهلية مفادها أن المسيحيين يُسمّون المرشحين الرئاسيين بينما الشريك المسلم هو من ينتخب.

يتميّز تاريخ لبنان الحديث بالصراعات وإنعكاس التأزم الإقليمي على الداخل، ولعل التسويات الخارجية هي من تملك كلمة الفصل في إنتخاب رئيس وليس القوى المسيحية.

ولا بدّ من العودة إلى جمهورية ما بعد الإستقلال لتأكيد المؤكد، ففي خريف 1943 إشتدّ الصراع البريطاني – الفرنسي، وعلى رغم فوز عميد «الكتلة الوطنية» إميل إده بالأغلبية المسيحية إنتخب زعيم «الكتلة الدستورية» بشارة الخوري رئيساً بدعم بريطاني وإسلامي واضح لتبدأ بعدها معركة الإستقلال.

وبعد الثورة البيضاء على الخوري واستقالته عام 1952، إنتُخب النائب كميل شمعون رئيساً للجمهورية وكان ملقّباً بـ»فتى العروبة الأغرّ» ولم يصل الطامح الأول آنذاك حميد فرنجية إلى الرئاسة، مع أن فرنجية كان يملك التمثيل الأوسع عند المسيحيين ويتفوّق على شمعون. إنتهى عهد شمعون بثورة 1958، وعلى رغم تحوّل شمعون إلى الرمز الأول للمسيحيين والممثل شبه الأوحد لهم وإمتلاكه الأغلبية البرلمانية، أسفرت التسوية الأميركية – المصرية عام 1958 عن وصول قائد الجيش العماد فؤاد شهاب إلى بعبدا، والذي إختار عام 1964 شارل حلو ليكمل العهد الشهابي مع أنّ الشعور المسيحي كان مع زعيم المعارضة كميل شمعون.

ولم تشق عاصفة إجتياح «الحلف الثلاثي» لمعظم المقاعد المسيحية في إنتخابات 1968 النيابية الطريق أمام وصول أحد من أركان «الحلف» إلى بعبدا، فاختار زعماء «الحلف» المكوّن من شمعون والشيخ بيار الجميل والعميد ريمون إده دعم مرشح كتلة «الوسط» النائب سليمان فرنجية والذي فاز على منافسه الشهابي الياس سركيس.

وعلى رغم إندلاع الحرب واصطفاف المسيحيين خلف أحزاب «الجبهة اللبنانية»، عاد سركيس الذي لا يمثّل مسيحياً ليُنتخب رئيساً من بوابة التسوية الأميركية – السورية وتحت شعار إنهاء الحرب وإعادة سلطة الدولة، ولم يستطع حلّ الأزمة بل كان رئيس إدارة الأزمة.

وإذا كان إنتخاب الرئيس بشير الجميل إستثنائياً ومن بعده شقيقه الرئيس أمين الجميل، فقد عاشت البلاد بين عامَي 1989 و2005 في ظل الإحتلال السوري الذي أوصل إلى بعبدا كلاً من الرئيس الياس الهراوي عام 1989، بعد إغتيال الرئيس رينه معوض، والرئيس إميل لحود عام 1998.

بعد الإنسحاب السوري، دخل لبنان مرحلة جديدة من الإدارة السياسية، فلم ينجح رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون الذي اتى بـ»تسونامي» في إنتخابات 2005 النيابية في تحقيق حلمه الرئاسي بالوصول إلى بعبدا في خريف 2007 بعد إنتهاء ولاية لحود الممددة، بل أنتج «إتفاق الدوحة» إنتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في 25 أيار 2008.

ومخطئ من يقول إنّ عون إنتُخب عام 2016 بفعل رغبة المسيحيين فقط، فانتخابه جاء بعد تبدّل الموازين الخارجية والتسليم بانتخاب رئيس من خارج صفوف 14 آذار، فالتفاهم المسيحي سرّع إنتخابه وكان ضرورياً لوصوله، لكنه حظي أيضاً بدعم «حزب الله» والرئيس سعد الحريري الذي أبرم معه تسوية «السراي مقابل بعبدا»، وكذلك صوّت له رئيس الحزب «التقدّمي الإشتراكي» وليد جنبلاط.

وبعد كل الصولات والجولات الرئاسية، لن يتغيّر المشهد في هذه الإنتخابات، فأي مكوّن مسيحي لن يستطيع إنتخاب رئيس بمفرده أو فرض شروطه. بكركي التي تقوم بحركة مكوكية لا تهدأ، غير قادرة حتى هذه اللحظة على جمع الأقطاب المسيحيين ولا حتى النواب والخروج بنتيجة تؤدي إلى حل أزمة الفراغ الرئاسي، ولن تقدّم أي لائحة رئاسية لأنّ تجارب اللوائح السابقة التي قدّمتها من أيام البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير ومن البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لم توصل إلى حلّ، فالوعد الذي قطعه الزعماء الموارنة الأربعة الذين اجتمعوا في بكركي عام 2013 على عدم تعطيل النصاب، خرقه كل من عون ورئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية حينها وقاطعا الجلسات بعد أول جلسة إنتخاب.

وبالنسبة إلى حلفاء «حزب الله» المسيحيين، يقاتل رئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل للحفاظ على دوره وإحتكار علاقته بـ»الحزب»، وتشهد العلاقة توتراً كبيراً قد يكون من الصعب ترميمها، لذلك لم يعد «التيار الوطني الحر» يمسك بورقة «المسيحي الأقوى» وتقلّص دوره الرئاسي، وبات «حزب الله» مستعداً لخسارة غطاء «التيار» المسيحي ولن يمنح باسيل ما يريده رئاسياً.

ولا يعتبر فرنجية في موقع أقوى من باسيل خصوصاً بعد نكسة الإنتخابات النيابية، فتمسّك «الثنائي الشيعي» بترشيحه قد يحرقه إذا لم ينل رضى «التيار الوطني الحرّ»، ومع تقلّص حجمه النيابي تبقى قوته مستمدّة من دعم «محور الممانعة» لا من الشارع المسيحي.

وكانت «القوات اللبنانية» تراهن على حصد المعارضة الأغلبية البرلمانية، لكن تفرّق المعارضين جعل المهمة أصعب، وإذا نجحت «القوات» في تشكيل معارضة سيادية إلا أنها لم تنجح في حشد 65 صوتاً لمرشحها الرئاسي النائب ميشال معوض، بينما تقف «الكتائب» مع «القوات» في جبهة دعم معوض، لكن يبدو واضحاً أن القوى السيادية المسيحية غير قادرة على إيصال مرشحها.

لا تقتصر الأزمة على المكوّن المسيحي بل كل القوى في البلد مأزومة، وإذا حصلت أعجوبة واتفقت الأطراف المسيحية على اسم أو أكثر هل تلتزم بقية الأطراف بالإتفاق أو أن ما ينطبق على المكونات الأخرى لا يسري على المسيحيين؟