فضل الله: في وداع شهر رمضان الحفاظ على الروحيّة والمكتسبا!

فضل الله: في وداع شهر رمضان الحفاظ على الروحيّة والمكتسبا!


قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. صدق الله العظيم.

وداع شهر رمضان

أيام قليلة ويفارقنا هذا الشّهر، بعد أن نكون قد صاحبناه لثلاثين يوماً، هذا الشهر الذي نعمنا فيه ببركاته وخيراته؛ حظينا فيه بضيافة الكريم، أنفاسنا كانت فيه تسابيح، ونومنا عبادة، ودعاؤنا فيه مستجاباً، والأجر مضاعف فيه أضعافاً كبيرة… يكفي أن نقرأ فيه آية من القرآن حتى نأخذ ثواب من ختم القرآن كلّه في بقية الشهور، وأن نتطوَّع فيه بنافلة حتى يكتب لنا براءة من النّار، وأن نؤدّي فيه فريضة حتى يكتب لنا ثواب من أدَّى سبعين فريضة في غيره من الشهور، وإن وصلنا فيه رحماً، فإن الله عز وجل سيصلنا برحمته يوم نلقاه، وقد أودع الله عزّ وجلّ فيه ليلة أشار الله عزّ وجلّ أنها خير من ألف شهر.

هو شهر شعرنا فيه بعبوديتنا لله، فصرنا فيه نأكل حين يريدنا الله أن نأكل، ونترك ما نهانا عنه حين يريد ذلك.. شهر انتشلنا الله فيه من أنانيّاتنا، وملأ قلوبنا بالمحبة والحنو على الفقراء والمساكين، وكلّ من قست عليهم ظروف الحياة… شهر نعمنا فيه بكلّ ما تسمو فيه أرواحنا إلى بارئها بقراءة القرآن والذكر وصلاة اللّيل، وبتربية أنفسنا على الرحمة بالصغار والتوقير للكبار وحسن الخلق والانضباط بألسنتنا وأسماعنا وكلّ جوارحنا، ومنعها من أن تخرج عن حدود ما رسم الله لها.

شهر نعمنا فيه بأنس لياليه وأسحاره وما يحظى به الصَّائمون من بركات عند إفطارهم “للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة يوم يلقى ربه”…

لذا، من الطبيعي أن نشعر بالأسى لفراقه كما يشعر الواحد منا عند فقد عزيز…

وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين (ع) في دعائه في وداع شهر رمضان، قائلاً:

“اللّهمّ وَقَدْ أَقَامَ فِينَا هَذَا الشَّهْرُ مَقَامَ حَمْدٍ، وَصَحِبَنَا صُحْبَةَ مَبْرُور، وَأَرْبَحَنَا أَفْضَلَ أَرْبَاحِ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ قَدْ فَارَقَنَا عِنْدَ تَمَامِ وَقْتِهِ، وَانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَوَفَاءِ عَدَدِهِ، فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا، وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا…”.

لكن هذا الشّعور لن يبلغه إلَّا من عرف قدر هذا الشّهر وأهميّته، وعمل بما دعي إليه فيه. وبعد كلّ هذا يطرح السّؤال: هل شهر رمضان هو كأيّ شهر من شهور السّنة يمرّ وينتهي بانتهائه؟

الأمر ليس كذلك، فالله سبحانه لم يرد لهذا الشَّهر أن يكون شهراً في السّنة، بل أراد له أن يكون سيّداً للشهور وقائداً لها، وما يحصل فيه من أجواء روحية وإيمانية ينبغي أن ينعكس على السنة كلها.

ترسيخُ الآثارِ الروحيّة

ومن هنا، أيُّها الأحبة؛ لا بدَّ لنا أولاً: من أن نصمم على أن نتابع ما بدأناه في هذا الشهر، بأن يبقى تواصلنا مع القرآن، أن لا نهجره ولا نقليه، بل أن نستمرَّ، وكما كنا في شهر رمضان، في تلاوته وحفظه وفهمه وتدارسه.

بأن نذكر الله في السّرّ والعلن، وفي آناء اللّيل وأطراف النَّهار، وفي الدعاء وأداء الصّلوات بأوقاتها، والاهتمام بصلاة اللّيل وأداء النّوافل، كما كنا نحرص في شهر رمضان في نهاره وليله وأسحاره…

وأن نستمرَّ ببسط أيدينا بالعطاء والصَّدقات لعباد الله، أن نبحث عنهم، فلا ننتظر أن يأتوا إلينا ليبذلوا ماء وجوههم حتى نغدق عليهم من عطائنا، فمن صام، لا بدَّ من أن يتحوَّل إنساناً يتعالى عن أنانيّته، ويخرج من شرنقة نفسه، ليصبح عبداً باراً، ولا يوجد برّ بلا تواصل وبلا تراحم.

أن نستمر بالتواصل مع أرحامنا وجيراننا ومن نعيش معهم في الحيّ أو القرية، ومع المؤمنين. أن نحرص على ارتياد المساجد وموائد الذكر والتوجيه والموعظة… أن نصوم بعده فيما دعينا إلى الصيام فيه.

وثانياً؛ أن نتأكَّد من بلوغنا الهدف الّذي من أجله كان رمضان، فشهر رمضان أودع الله فيه هدفاً جعله مقياساً لقبول هذا الشَّهر، فلا يقبل هذا الشهر بدونه.

وقد كان القرآن واضحاً في الدَّلالة على هذا الهدف، عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فلا بدّ من أن نتأكد من بلوغنا هذه الدرجة الرفيعة، أمَّا كيف ذلك؟ فهو يتحقّق بطريقتين:

الطريقة الأولى، هي بأن يعرض كلّ منا نفسه على الآيات والأحاديث الّتي تحدّثت عن المتّقين وبيّنت صفاتهم، للتأكّد من اشتماله على هذه الصّفات.

من هذه الآيات الكريمة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.

وقوله عنهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}…

ومن الأحاديث الشّريفة الّتي تتحدَّث عن صفات المتّقين: “لا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا، حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ مُحَاسَبَةَ شَرِيكِهِ، وَحَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ، وَمَطْعَمُهُ، وَمَشْرَبُهُ”.

وفي الحديث: “أنْ لَا يَفْقِدكَ الله حَيْثُ أَمْرَكَ، وَلَا يراك حَيْثُ نَهَاكَ”.

والطريقة الأخرى لترسيخ آثار شهر رمضان في نفوسنا، هي قياس مدى قربنا أو بعدنا عن الصّفة التي تقابل التّقوى، أي الفجور، وقد ورد: “فإنَّ الناس اثنان: برٌّ تقيّ، وآخر فاجر شقيّ”.

وصفة الفاجر تصدق على من لا يستحي أن يراه الله وهو يعصيه، وهو من لا يبالي بذلك.

وثالثاً؛ أن نحرص على أن لا نضيِّع ما كسبناه في هذا الشهر، ونُحرم مما عشناه من حالات التقوى، بغيبة هنا، أو بكذب هناك، أو بظلم إنسان، أو بأكل باطل، أو بإساءة إلى عرض، أو غير ذلك مما يوسوس به الشّيطان أو أنفسنا الأمّارة بالسّوء، أو عصبياتنا أو انفعالاتنا، بحيث يعود الإنسان مفلساً، كالّذين تحدَّث عنهم الحديث الوارد عن رسول الله (ص)، حين قال: “أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟”، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ: “إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ”.

استدراك التَّقصير

وأخيراً، أن نحرص في هذه الأيام القليلة الباقية من هذا الشّهر، على أن نستدرك تقصيرنا فيه، بأن نبادر إلى العمل بما قصَّرنا فيه من عبادات في هذا الشَّهر من أداء النوافل وقراءة القرآن والدعاء، وإحياء اللّيل بالعبادة وصلة الأرحام والجيران والمؤمنين، وبذل الخير إلى كلّ من يحتاج إليه، بأن نتوجَّه بعد ذلك إلى الله لنقول له:

“اللّـهُمَّ أَدِّ عَنّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصيرَنا فيهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مَقْبُولاً، وَلا تُؤاخِذْنا بِإِسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ الْمَرْحُومينَ وَلا تَجْعَلْنا مِنَ الْمحْرُومينَ”.

ولعلّ أفضل ما نغادر به هذا الشهر، بأن نتحرك على قاعدة ما نقل عن الإمام زين العابدين (ع) وهي: العفو عمن ظلمنا وأساء إلينا، فقد كان الإمام (ع) يحرص في آخر ليلة من ليالي شهر رمضان على أن يجمع خدمه وعماله ويقرّرهم بأخطائهم وذنوبهم في أعمالهم أو تجاهه، ثم بعدها يتوجَّه إلى الله قائلاً: “اللّهُمّ إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفُسنا، فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا”، ثم يعفو عنهم… وأن ندعو الله بما كان يدعو به رسول الله (ص) ربه في آخر جمعة من شهر رمضان: “اللّهمّ لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فإن جعلتَه فاجعلني مرحوماً، ولا تجعلني محروماً”.


مقالات