المصريّون يودّعون نصر الله: ناصر آخر يغادرنا
القاهرة | تستمر الحكومة المصرية في منع تضامن الشعب المصري مع الشعبين الفلسطيني واللبناني اللذين يتعرّضان للإبادة الجماعية، التي قارب أن يبلغ عُمرها عاماً من التخاذل العربي والدولي أمام تلك الجريمة. إذ كان لافتاً، في اليومين الماضيين، مدى قلق الحكومة المصرية من تصاعد موجة الغضب العارمة بين المصريين بعد إعلان حزب الله استشهاد أمينه العام، سماحة السيد حسن نصر الله، في الثامن والعشرين من أيلول. فللأخير تاريخٌ محفور في ذاكرة جميع المصريين والعرب؛ إذ غادرنا في اليوم نفسه من عام 1970 الزعيم جمال عبد الناصر، الذي لم يرَ المصريون مثيلاً له على الساحة العربية إلا الشهيد نصر الله، الذي يُذكِّر المصريين بـ«ناصر» المستضعفين منهم، وبتاريخ صراعٍ كان فيه المصريّ في مقدمة قافلة الشهداء على طريق تحرير أراضينا العربية المحتلة.وتجلّى هذا القلق في منع السلطات المصرية التظاهر للتضامن مع لبنان الذي يتعرّض، بالإضافة إلى العدوان الإسرائيلي، لحصار عسكري ووقف لحركة الطيران فوق أراضيه، وسط فرض قوّات الشرطة تشديداً أمنياً في محيط السفارتين الأميركية والإسرائيلية ومحاصرة ميدان التحرير ومحيط مقر نقابة الصحافيين. ويأتي هذا المنع على الرغم من أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، أعلن، خلال اتصال هاتفي مع رئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، السبت الماضي، تضامن مصر مع لبنان وشعبه، ودان التصعيد الإسرائيلي، وشدد على ضرورة الوقف الفوري والشامل والدائم لإطلاق النار في لبنان وغزة، ووجّه بإرسال مساعدات طبية وإغاثية طارئة إلى لبنان.
واستكمالاً لمسار الإسكات بالقمع الأمني والاعتقالات بحق المصريين المتضامنين مع الفلسطينيين منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تفيد مصادر «الأخبار» بأن الجهات التابعة لوزارة الداخلية، رفضت خلال اليومين الماضيين، طلبات للحصول على إذن لإقامة وقفات تضامنية عقب اغتيال السيد نصر الله، وأن قوّات الأمن فرضت حصاراً على وقفة تضامنية نظّمها «التيار الناصري الموحّد» أمام مقر «الحزب العربي الناصري». كما منعت القوى الأمنية المارّة من المشاركة في صلاة غائب أقامها المشاركون على روح الشهيد القائد. ومع ذلك، أعلن «الحزب العربي الناصري» إقامة عزاء للشهيد السيد في مقر الحزب في ميدان طلعت حرب، وسط القاهرة، في السابعة مساءً من يوم الخميس المقبل.
أيضاً، أصدر عدد من الأحزاب والحركات السياسية المصرية بيانات، قدّمت فيها تعزية إلى الشعب اللبناني والحاضنة الشعبية للمقاومة الإسلامية باستشهاد قائدها، ودانت التصعيد المستمر من جانب الكيان الصهيوني. ومن بين تلك الجهات: «الحركة المدنية الديموقراطية» و«التيار الناصري الموحَّد»، و«حزب الكرامة» و«الحزب العربي الناصري» و«الحزب الشيوعي المصري» و«الحزب الاشتراكي المصري»، و«حزب التحالف الشعبي الاشتراكي»، و«الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي»، و«حزب العيش والحرية» و«حركة الاشتراكيون الثوريون».
يؤكد النشاط الأبرز على مواقع التواصل الاجتماعي أن الغالبية العظمى من المتفاعلين محزونون على استشهاد السيد نصر الله
وفي ظل غياب إمكانيات إقامة أي فاعليات شعبية كبيرة، وسط التشديد الأمني، لم يجد المصريون مكاناً ليعبّروا عن حزنهم وغضبهم إلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتداولون صور السيد نصر الله ومقاطع من خطبه، ويكتبون الرثاء والخواطر، ويطمئنون أنفسهم والآخرين بأن المقاومة لا تزال بخير، حتى إن البعض يشارك كلمات الإمام الحُسين والسيدة زينب. وأثار استشهاد السيد نصر الله في ذكرى وفاة عبد الناصر مقاربات عديدة لشخصية كلّ منهما ودورهما، وقال البعض إنهم بكوا على رحيل الأول، كما بكوا على رحيل الثاني منذ أكثر من أربعة عقود، وإن الخسارتين لا فارق كبيراً بينهما. وكان نشاط الأجيال الصغيرة على وسائل التواصل الاجتماعي لافتاً، إذ عبّر البعض عن حُزنهم على رحيل سيد شهداء المقاومة، وأشار بعضهم إلى أنهم عرفوا في اللحظة التي وصلهم فيها خبر استشهاده كيف شعر آباؤهم وأجدادهم يوم رحيل عبد الناصر. كما شارك البعض صور وخطب عبد الناصر ونصر الله، فيما تداول آخرون منشورات تدين موقف الحكومة المصرية وترفض معاهدة «كامب ديفيد» واتفاقية «السلام».
ولم يخلُ مشهد وداع المصريين لنصر الله من مظاهر سلبية؛ إذ شنّ إعلاميون مصريون يوصفون بـ«سيئي السمعة»، على شاكلة أحمد موسى وعمرو أديب وإبراهيم عيسى ونشأت الديهي، هجوماً مُبطَّناً على حزب الله باستخدام خطاب انهزامي، فيما هاجم آخرون، يعملون في قنوات ناطقة بلسان «جماعة الإخوان»، الحزب من بوابة انخراطه في معركة سوريا. كما كان لافتاً أن بيان «حركة الاشتراكيين الثوريين» استدعى أيضاً هذا الانخراط، معتبراً أن السيد نصر الله كان «أحد أسباب هزيمة الثورة في سوريا».
وعلى خط مواز، كان الخطاب نفسه يُروّج ويُتداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين عدد من المصريين بطرق مختلفة. والواقع أن لهذه المظاهر السلبية ما يفسِّرها، إذ إن خطاب الإعلام المصري، الرسمي وغير الرسمي، وأيضاً خطاب الإعلاميين الناطقين بلسان «جماعة الإخوان»، لم يتوانَ عن ترويج البروباغاندا الغربية عن الحرب في سوريا منذ اندلاعها، فيما لا تزال أقسام من المعارضة المصرية، من يمينها إلى يسارها، مُتأثّرة بذلك الخطاب أو حتى ناطقة به رغم تكشُّف الحقائق. كما يمكن إرجاع تلك المظاهر إلى وعيٍ زائف بحقائق الحرب الإمبريالية على سوريا، والتأثّر بالسردية الغربية أو بالخطاب الطائفي أو بنزعة وطنية شوفينية.
ومع ذلك، يؤكد النشاط الأبرز على مواقع التواصل الاجتماعي، على مدار اليومين الماضيين، أن الغالبية العظمى من المتفاعلين محزونون على استشهاد السيد نصر الله وغاضبون من النشاط الديبلوماسي عديم القيمة الذي تمارسه الحكومة المصرية إزاء الإبادة الجماعية في غزة ولبنان. ويشكل ارتقاء سيد شهداء المقاومة، الذي يمثل بالنسبة إلى هؤلاء صوت المستضعفين وناصرهم، ومُذِلّ المستكبرين وهازمهم، ورمز كفاح الأمة العربية والشعوب الحرة، مصيبة أصابت الكفاح العالمي من أجل حياة أفضل للجميع، وحركة التحرر العربية بشكل خاص. ولكن هذه الأخيرة، رغم الهزائم المتتالية التي لحقت بها منذ عام 1967 حتى عام مضى، ما زالت تقاوم وتنتزع من الوجود حيِّزاً بات يشمل جبهات متعددة، ويتوسَّع باستمرار، ولا سيما أن العالم العربي وحركة تحرره لم يشهدا انتصاراً بحجم «طوفان الأقصى» منذ هزيمة عام 1967، واليوم يستكمل محور المقاومة مسار التحرير ويُعيد إلى أذهان الأمة الحقائق المنسيَّة ووجودية الصراع مع الكيان الصهيوني. كما يعتبر هؤلاء أن حركة التحرر التي أنجبت نصر الله وعبد الناصر، ولّادة لا تنضب. وحزب الله، وهو رأس حربتها، سيكمل مسار التحرير على طريق القدس، وسيقدِّم مع محور المقاومة والشعب العربي ألف نصر الله وألف عبد الناصر. ورغم أن الاثنين لا يمكن تعويضهما، إلا أن عجلة التاريخ لن تتوقف، وقافلة التحرر ستتقدم في مسارها.
طه الغريب