رومانيا في الفلك الروسي: نادي مناهضي «الناتو» الأوروبيين يتوسع

رومانيا في الفلك الروسي: نادي مناهضي «الناتو» الأوروبيين يتوسع

لندن | فاز سياسي من أقصى اليمين، متعاطف مع روسيا ومناهض لـ«حلف شمال الأطلسي»، في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في رومانيا، ما تسبّب في صدمة للطبقة السياسية الليبرالية في البلاد، وأطلق إشارات إنذار في كل من واشنطن وبروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي). وحصل كلين جورجيسكو (62 عاماً) على 23% من مجموع أصوات الناخبين، متقدّماً على الزعيمة الليبرالية إيلينا لاسكوني (حلّت في المرتبة الثانية بـ19%)، ورئيس الوزراء الحالي مارسيل سيولاكو الذي حل ثالثاً. وبالنظر إلى عدم حصول أيّ من المرشحين على أكثر من 50% من الأصوات في الجولة الأولى (الأحد الماضي)، فستجرى، وفقاً للقانون الروماني، جولة إعادة حاسمة في غضون أسبوعين (8 كانون الأول) بين المرشحَين الأولَين.

ورغم أن الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، قال إن موسكو ليست على اتصال بجورجيسكو، ولن تتنبّأ بنتيجة الانتخابات الرئاسية الرومانية، إلا أن العضو في البرلمان الأوروبي عن رومانيا، سيغفريد موريسان، اعتبر نتيجة هذه الجولة «جزءاً من حرب هجينة تشنّها روسيا ضدّ الديموقراطية الأوروبية»، مضيفاً أنه «ينبغي للرومانيين أن يفعلوا الشيء نفسه الذي فعله جيرانهم في مولدوفا المجاورة في جولة الإعادة»، في إشارة منه إلى فوز مايا ساندو الرئيسة الموالية للاتحاد الأوروبي، بولاية رئاسية ثانية، وبفارق ضئيل جداً في مواجهة مرشّح متعاطف مع موسكو. وحذّر موريسان من «الحزب الوطني الليبرالي»، والذي حلّ مرشّح حزبه في المركز الخامس بأقل من 9% من مجموع الأصوات، من أن جورجيسكو، «المرشح الموالي لروسيا، والمعجب بـ(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين، والذي يسعى إلى تقويض شرعية أوكرانيا، يمثّل خياراً شديد الخطورة بالنسبة إلى رومانيا، خاصة مع استمرار الحرب في أوكرانيا المجاورة».

وترشح جورجيسكو، العضو الفخري السابق في حزب «آيه يو آر» القومي الراديكالي، كمستقلّ لم يحظَ بدعم أيّ من الأحزاب، فيما تجاهلته استطلاعات الرأي وتقديرات الخبراء، ولم ينظر إليه أحد تقريباً لا في رومانيا ولا خارجها على أنه المرشّح الأوفر حظّاً لتولّي أهمّ منصب في هيكلية السلطة في الجمهورية التي يبلغ عدد سكانها نحو عشرين مليوناً، علماً أن رومانيا تتبنى نظام حكم يمنح الرئيس الحقّ في ترشيح رئيس للوزراء وإجراء محادثات ائتلافية، وتكون له الكلمة الأخيرة في مسائل الأمن والسياسة الخارجية. ويمثّل جورجيسكو نقيضاً لكل توجهات النخبة الليبرالية السياسية التي سيطرت على البلاد منذ سقوط النظام الشيوعي فيها، قبل 30 عاماً، إذ يشكّك علناً في قيمة عضوية رومانيا في «الناتو»، ويعتبر أن بوخارست لا تجني أيّ فوائد ملموسة من انخراطها في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. كما ينتقد بشكل صريح نشر جزء من منظومة ردع مضادة للصواريخ في قاعدة عسكرية أميركية تستضيفها بلاده (قاعدة ميخائيل كوغالنيتشيانو الجوية على البحر الأسود)، ويظهر تعاطفاً مع روسيا في حربها ضدّ أوكرانيا، وهو الذي وصف، في تصريحات سابقة له، الرئيس الروسي، بأنه رجل يحبّ بلاده، وأحد «القادة الحقيقيين القلائل في العالم». وعلى الصعيد الاجتماعي، يقدّم جورجيسكو نفسه كمسيحيّ متديّن يدعم القيم العائلية المحافظة، ويناهض النخبة الحاكمة الفاسدة التي يدين شراكتها الوثيقة مع المصالح التجارية الأجنبية في الاحتيال على رومانيا، ما يجبر الأخيرة على استيراد الغذاء والمواد الاستهلاكية من الخارج في الوقت الذي يمكن فيه لثرواتها المحلية أن تتيح لها الاكتفاء الذاتي.

علّق جورجيسكو على نتائج الانتخابات، بالقول إنه أنفق «صفراً» من الأموال على حملته الانتخابية


واعتبر مراقبون للشأن السياسي الروماني، تقدّم جورجيسكو الصريح في الجولة الأولى من الانتخابات بمنزلة «زلزال سياسي»، ولا سيما أن كل استطلاعات الرأي اعتبرته مرشحاً هامشياً، ووصفه بعضهم بمرشح «التيك توك»، بعدما اكتسحت مقاطع وصور له فضاءات وسائط التواصل الاجتماعي الرومانيّة، فيما يقول آخرون إنه نموذج شعبوي آخر على غرار دونالد ترامب.

وعلّق جورجيسكو على نتائج الانتخابات، بالقول إنه أنفق «صفراً» من الأموال على حملته الانتخابية، لكنه «وضع ثقته الكاملة في الله». وبحسب تحليل نتائج التصويت في 41 دائرة انتخابية، فإن جورجيسكو حظي بالفعل بتأييد واسع بين الناخبين المتدينين في الأرياف المهمشة، ولكنه أيضاً وجد شعبية واسعة في صفوف الشبان صغار السن الغاضبين من الفساد المستحكم ببلادهم، كما حصل على أصوات 43% من الناخبين الرومانيين في الخارج. وبإضافة أصوات جورجيسكو إلى أصوات مرشّح حزب «آيه يو آر» القومي الراديكالي، جورج سيميون، فإن أكثر من ثلث مجموع الناخبين أيّدوا مرشحَين معاديَين لبروكسل و«الناتو». ومع إعلان سيميون وحزب قومي آخر دعمهما لجورجيسكو في جولة الإعادة، فإن تصويت الثامن من كانون الأول المقبل، يبدو بشكل متزايد أقرب إلى استفتاء شديد الاستقطاب حول تموضع البلاد الإستراتيجي.

ومن جهتها، تكافح الأحزاب الليبرالية الوسطية في رومانيا للاحتفاظ بمصداقيتها بعد سنوات من فضائح الفساد وسياسات التقشف؛ إذ لم ينجح الائتلاف الحاكم - من الحزبَين «الاشتراكي الديموقراطي» و«الوطني الليبرالي» - سوى في تعميق مصاعب العيش اليومي للرومانيين، وإفساد النظام القضائي، وتحويل الأموال إلى نظام كييف، إرضاءً لبروكسل وواشنطن، علماً أن الحكومة الرومانية قدّمت معدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة تزيد على مليار يورو، منذ بدء الحرب هناك في شباط 2022. ومع ذلك، فإن أوساطاً في النخبة الليبرالية في بوخارست لا تزال تراهن على جهود بذلتها طوال العقود الثلاثة الماضية لبناء صورة إيجابية عند الرومانيين تجاه الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو». ونقلت صحف محلية عن ترايان باسيسكو، الرئيس السابق للبلاد بين عامَي 2004 و2014، تشكيكه في احتمال فوز جورجيسكو في الجولة الثانية من الانتخابات، واعتباره أن قطاعات من الناخبين عبّرت عن غضبها من الأوضاع الاقتصادية، لكن الغالبية في رومانيا لا تزال ترى نفسها في مربع التحالف اليورو - أطلسي. ودعت إيلينا لاسكوني، التي ستواجه جورجيسكو في جولة الإعادة، بدورها، الرومانيين إلى «التوحّد معاً الآن لمنع سقوط البلاد مجدداً تحت عبودية روسيا»، وحثّت حشداً من أنصارها تجمّعوا في بوخارست بعد الإعلان عن نتيجة الجولة الأولى، على «عدم السماح للإحباط من نخبة الحكم الحالية بأن يصبح نقطة ضعف تستغلّها روسيا».

وأتى تقدم جورجيسكو في وقت حرج جداً بالنسبة إلى واشنطن التي تحتدم مواجهتها مع موسكو، ولا شكّ في أنها تراقب بتوجس تعالي الخطاب المناهض لها في رومانيا أيضاً، بعد موجة صعود موازية لأنصار روسيا في انتخابات الكتلة الشرقية السابقة (جورجيا وبلغاريا ومولدوفا). وليس الأمر أفضل حالاً بالنسبة إلى بروكسل، التي تخشى من انفراط عقد حملتها المؤيدة للنظام الأوكراني، في ظل تزايد الدول الأعضاء التي يقودها زعماء متعاطفون مع روسيا من الدول الصغيرة في وسط أوروبا وشرقها. ومن شأن تولّي شخصية مثل جورجيسكو رئاسة رومانيا، أن يزيد من ثقل ذلك التيار المشاغب داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والذي يتبنّى تقليدياً مواقف تعرقل اعتماد السياسات الليبرالية ذات الصبغة المركزية، ما يصعب من عملية اتخاذ القرارات، ويفرض على بيروقراطية المفوضية الأوروبية تقديم تنازلات.

  • سعيد محمد