السلام والخداع الإستراتيجي: وهم الدولة وعدمية السلام

السلام والخداع الإستراتيجي: وهم الدولة وعدمية السلام
خورشيد الحسين
منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي، سُوِّق لما يُسمى بـ"عملية السلام" على أنها الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة، لكن ما جرى على الأرض كان نقيضًا لهذا الخطاب. فبينما كانت المفاوضات تُعقد تحت شعارات الأمل والتعايش، كانت إسرائيل تُوسع الاستيطان، وتُعمّق واقع التجزئة، وتفرض سياسات تجعل من فكرة الدولة الفلسطينية حلمًا مستحيل التحقق.
هذا الخداع الاستراتيجي لم يكن عفويًا، بل سياسة ممنهجة وموثقة في أدبيات قادة الكيان الصهيوني. من غولدا مائير التي أنكرت وجود الشعب الفلسطيني أصلًا، إلى بنيامين نتنياهو الذي صرّح مرارًا أن "القدس ستظل عاصمة موحدة لإسرائيل"، وأن "الضفة الغربية هي جزء من أرض الآباء"، يتضح أن المشروع الاستيطاني لا يعترف بأي إمكانية لسيادة فلسطينية حقيقية. بل إن مقولات مثل "السلام مقابل الأمن" كانت مجرد غطاء لإطالة أمد الاحتلال وتعميق قبضته.
الواقع اليوم يُظهر أن ما يُروّج له كـ"حل الدولتين" لم يعد إلا سرابًا سياسيًا. فالأرض التي يُفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية تمزّقت بين مستوطنات وجدار فصل عنصري، ومناطق محاصرة، وكيانات إدارية مفككة. لم تَعُد المسألة مسألة مفاوضات فاشلة، بل أصبحت مسألة عدمية سلام: لا نية حقيقية، ولا شريك فعلي، ولا إطار عادل.
بين "الوجود أو اللاوجود"، يجد الفلسطيني نفسه اليوم في مواجهة خيار وجودي: إما الانصهار في واقع الفصل العنصري و"السلام الاقتصادي"، أو مواصلة النضال من أجل حقه الكامل – لا كمنّة، بل كحقيقة تاريخية وقانونية – في أرضه، وسيادته، وإنسانيته.م يشهد التاريخ الحديث عملية محو وإبادة ممنهجة لشعبٍ كما يحدث في فلسطين، حيث يُستهدف الوجود الفلسطيني ذاته: الإنسان، والأرض، والذاكرة. ليس الحديث هنا عن صراع تقليدي على حدود، بل عن محاولة اقتلاع شعب بأكمله من جذوره، ومحو حضوره الجغرافي والتاريخي لصالح رواية استيطانية ملفّقة تُفرض بالقوة.
وتكمن خطورة هذا الإبادة في الغطاء الدولي المتحيز، حيث تقف المؤسسات الدولية – التي يُفترض بها أن تُمثل العدالة والضمير الإنساني – عاجزة أو متواطئة، خاضعة لهيمنة القوى الكبرى التي تدعم المشروع الصهيوني سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا. من الفيتو الأمريكي المتكرر الذي يحول دون إدانة الجرائم، إلى صمت منظمات تُصمّ آذانها عن المجازر، يظهر بوضوح أن ميزان العدالة الدولية مُختل حين يتعلق الأمر بفلسطين.
أمام هذا الواقع الظالم، لا يبقى للفلسطيني سوى المقاومة – بكل أشكالها ومستوياتها. من الكفاح المسلح إلى النضال السياسي، من التمسك بالهوية والتعليم، إلى مقاطعة الاحتلال وفضحه عالميًا. المقاومة ليست مجرد رد فعل، بل حق مشروع، وخيار أخلاقي، وواجب وطني، يعبّر عن رفض الاستسلام، ويؤكد أن الفلسطيني، رغم الجراح، لن يُمحى، ولن يُكسر، وسيظل حاضرًا في التاريخ والجغرافيا، مهما طال ليل الاحتلال.