فلسطين... نص الضحية

فلسطين... نص الضحية

فلسطين... نص الضحية 


بقلم: محمد خورشيد الحسين


حين نقرأُ التاريخ، لا نكتفي بالبحث عن الحقائق، بل نحاول اكتشاف النَّص الذي كُتِب بالدم، وصيغ تحت رماد الحريق، وأُملِيَ على الضحايا وهم تحت سياط الجلاد. التاريخ، في معظم تجلياته، لم يكن سوى إعادة إنتاج لخطاب الغالبين، كتبوه وهم يطؤون بأقدامهم هشيم الهزيمة. أما الضحايا، فلم يُتح لهم سوى حيز ضيق للقول، بالكاد تسلل صوتهم عبره؛ نص خافت، مشتّت، يتلوّى بين فجوات السرد المنتصر.


الضحية، على كثرة ما عانَته، لم تُمنَح ترف الرواية الكاملة. حين تتكلم، فإنها تفعل ذلك من موقع الفقد، لا السيطرة؛ من ساحة الذاكرة الجريحة، لا من منصة التأريخ الرسمي. ولهذا يبدو خطابها مشوشًا، ناقصًا، كأنها تتهجّى جراحها قبل أن تُلملم شتات لغتها. فهي تُروِي ولا تُؤرِّخ، تُحذّر ولا تُصنّف، تستصرخ ولا تُنظِّر.


ولأن خطاب الضحية يخرج من تحت الركام، فإنه غالبًا ما يُقابَل بالريبة أو يُختزل في البكائية، بينما يُمنَح جلادُها حق التفسير والتبرير والتنظير. يُنتَقَدُ لذرفه الدموع، ولا يُسأل الجلاد عن فأسه الملطّخ. تُسخَّف شكواه ويُطالَب بإثباتٍ عقلاني لجراحه، فيما تُعتمد رواية الجلاد وثيقة رسمية تُدرّس في الكتب وتُروى في المحافل.


وما من مأساة تُجسّد هذا الخلل في سردية التاريخ أكثر من مأساة فلسطين. فالنصّ الفلسطيني، نص الضحية بامتياز، ظلّ قرنًا من الزمن يقاوم اختزاله إلى مجرد “رأي آخر”. لم يكن الفلسطيني مجرّد ضحية للعنف، بل ضحية للنسيان المفروض، للتشكيك الممنهج، للإبادة الرمزية. حتّى حين يُسمَح له بالكلام، يُطالَب بإثبات أهليّته للقول، وكأن عليه أن يُبرّئ نفسه قبل أن يشهد.


لقد أُريد لهذا النص أن يُمحى، أو يُعاد تأويله، أو يُحرَّف حتى يغدو صدىً لما أراده الجلاد: أن يكون الفلسطيني مسؤولًا عن نكبته، وأن يتحوّل إلى تهديد دائم بدل أن يُرى كضحية دائمة. هكذا تُنتَزعُ منه لغته، وتُصادَر حقيقته، ويُطالَب بالامتثال لمنطقٍ لم يُشارك في صناعته.


لكن رغم كل هذا، ظلّ النصّ الفلسطيني ينجو، لا لأن العالم أنصفه، بل لأن الضحية أصرّت على الكتابة. أصرّت على أن يكون لها لسانٌ لا يُكمَم، وذاكرة لا تُطوَى، ورواية لا تنضوي تحت منطق القوة. وهذا الإصرار هو ما يُخيف الطغاة، ويُربك المروّجين لخطاب “التوازن” الكاذب، ويُحْرِج المتحذلقين الذين يساوون بين الجلاد والضحية باسم "الموضوعية".


إن نص الضحية ليس دعوة للشفقة، بل شهادة مقاومة. إنه صوت من تحت الأنقاض، لكنه لا يصدر عن عجز، بل عن تصميم على الحياة. هو النص الذي يُبقي الحقيقة حيّة حين تموت السياسة، ويمنح الذاكرة حصانة حين تتواطأ الأكاديميا. فكلُّ نصّ لا يضع الضحية في مركزه، هو سردية مزوّرة مهما تزيّنت بالتحليل والحياد