وانتصار الصين في حرب المقاومة" وتكريم لجورج حاتم تشواندونغ :ليس مجرد ذكرى تاريخية بل إستحضار لمعان إنسانية وقيم مشتركة

أقامت السفارة الصينية وبلدية حمانا ،برعاية وحضور سفير جمهورية الصين الشعبية في لبنان تشين تشواندونغ، ندوة مشتركة في قاعة البلدية لإحياء الذكرى الثمانين لانتصار حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية، تحت عنوان: "صديق لبناني وانتصار الصين في حرب المقاومة".
حضر الندوة إلى جانب السفير: رئيس بلدية حمانا الدكتور أمين لبوس، ممثلون عن عائلة الدكتور جورج حاتم، رئيس رابطة الصداقة اللبنانية - الصينية للتعاون المحامي طوني مارون، رئيس جمعية طريق الحوار اللبناني - الصيني وارف قميحة، إضافة إلى حشد من أبناء البلدة وفعاليات اجتماعية واقتصادية وثقافية.
كلمة رئيس البلدية
افتتح رئيس بلدية حمانا الدكتور لابوس الندوة بكلمة ترحيب، قال فيها:
"إن موضوع محاضرتكم اليوم، حول "صديق لبناني وانتصار الصين في حرب المقاومة"، يفتح أمامنا مجالا واسعا للتأمل في معنى التضحية، ومعنى الإرادة الشعبية، ومعنى النهوض بعد المحن، ويعيدنا إلى واحدة من أكبر المحطات التي غيرت وجه التاريخ. لقد قدمت الصين خلال تلك الحقبة تضحيات جسيمة في سبيل الدفاع عن كرامتها وسيادتها، وسجلت نصرا تاريخيا أسهم في تثبيت السلم العالمي".
في كلمته خلال الندوة، استهل السفير تشين تشواندونغ حديثه بالإعراب عن "سعادته لوجوده في حمانا، مسقط رأس الدكتور جورج حاتم، مشيرا إلى أن هذا اللقاء "ليس مجرد احتفال بذكرى تاريخية، بل هو استحضار لمعانٍ إنسانية وقيم مشتركة تجمع الشعبين الصيني واللبناني."
و:"لقد قمنا اليوم بزيارة بلدية حمانا، ووقفنا أمام تمثال الدكتور جورج حاتم، الطبيب الذي عرفته الصين باسم ما هايدي، واستعدنا عبر فيلم وثائقي جوانب من حياته العظيمة. لقد كرّس حاتم نفسه للحرب العالمية ضد الفاشية، ولحرب التحرير الوطني الصيني، وقضية الصحة العامة، وهو ما أثار في داخلي مشاعر عميقة من الاحترام والتقدير."
وأضاف:
"حين جاء جورج حاتم إلى الصين عام 1933، لم يكن باحثًا عن منصب أو شهرة، بل جاء مدفوعًا بروح إنسانية صادقة لإنقاذ الأرواح. وعندما رأى فظائع العدوان الياباني وبطولات الجيش الأحمر بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، لم يتردد في الانضمام إلى صفوف المقاومة، ليصبح شاهدًا ومشاركًا في ملحمة الشعب الصيني. لقد عاش بين الصينيين، تقاسم معهم الخبز والمعاناة والأمل، ومنح نفسه اسمًا صينيًا ليقول: 'أنا واحد منكم'. كان دائمًا يردد: أشعر بسعادة بالغة لأنني شاركت في هذه القضية العظيمة بصفتي صاحب البيت، لا ضيفا".
و السفير:"بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية، أصبح جورج حاتم أول أجنبي يحصل على الجنسية الصينية، وحمل لقب 'رائد العمل الصحي في الصين الجديدة'. لم يكن مجرد طبيب، بل كان بانيًا لمنظومة صحية وطنية وضعت الإنسان في قلبها. وبذلك، صار اسمه رمزًا للعطاء بلا حدود، وللصداقة العميقة التي تتجاوز الجغرافيا."
ثم أشار إلى القيمة التاريخية للذكرى الثمانين لانتصار حرب المقاومة الشعبية ضد اليابان، قائلًا:
"لقد قدّمت الصين خلال 14 عامًا من المقاومة الوطنية أكثر من 35 مليون شهيد وجريح، وواجهت ظروفًا بالغة القسوة. ومع ذلك، استطاع الشعب الصيني أن يصمد، وأن يحقق النصر عام 1945، ليس للصين فقط، بل للإنسانية جمعاء في الحرب العالمية ضد الفاشية. لقد كانت حربًا جسّدت إرادة الشعوب في التحرر، وأرست الأساس لنظام دولي جديد قائم على العدالة والقانون الدولي، وهو ما تجسّد لاحقًا في قيام الأمم المتحدة."
وختم السفير كلمته بالقول:"إن الصين ولبنان صديقان قديمان، تعاضدا في أوقات الشدة وتقاسما قيم الصداقة والصدق والإخلاص. واليوم، فيما نقترب من الذكرى الخامسة والخمسين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين بلدينا، ومع التحضير للقمة العربية - الصينية الثانية في الصين العام المقبل، تتفتح أمامنا فرص جديدة لتعزيز التعاون في التنمية والتبادل الثقافي والحضاري. إن الدكتور جورج حاتم، الذي جمع بروحه بين حمانا وبكين ويانآن، سيبقى رمزًا لهذه الصداقة، وشاهدًا على أن القيم الإنسانية الخالدة قادرة على أن تبني جسورًا أقوى من كل التحديات."
ثم تحدث جو حاتم باسم العائلة، معبّرًا عن فخرهم بابن حمانا الذي حمل اسم "ما هايدي":"كرّس الدكتور جورج حاتم حياته في خدمة الإنسان والمجتمع، فكان رمزًا للتفاني والتواضع، وصار مثالًا للمغترب اللبناني الذي يبرع حيثما حلّ، ويترك أثرًا خالدًا. إن اجتماعنا اليوم عربون وفاء وتقدير له، وسيبقى حاضرًا في ذاكرتنا جميعًا جسراً بين حمانا والصين".
كلمة مارون
بدوره، ألقى المحامي طوني مارون كلمة شدد فيها على "عمق الروابط اللبنانية - الصينية، مؤكدا "أن إرث جورج حاتم يعكس حقيقة الصداقة بين الشعوب، ويمثل مدماكا للتعاون المستقبلي بين البلدين".
أما رئيس الجمعية وارف قميحة فألقى كلمة مطولة بعنوان "من شنغهاي إلى يانآن إلى بكين… خطى جورج حاتم". استعرض خلالها مسيرة الطبيب اللبناني الأممي الذي اختار أن يكون جزءًا من الثورة الصينية، مبرزًا دوره في حرب المقاومة ضد اليابان، ومساهمته في بناء المنظومة الصحية الحديثة في الصين. وقال:
إنه لشرف كبير أن أجلس بينكم اليوم في هذا اللقاء المخصص لاستذكار شخصية لبنانية استثنائية، تركت أثرًا لا يُمحى في تاريخ الصين الحديثة، بل وفي تاريخ الطب الإنساني العالمي. نتحدث اليوم عن الدكتور جورج شفيق حاتم، الذي عرّفته الصين والعالم باسم ما هايدي، الطبيب الأممي، الرجل الذي جعل من حياته تجسيدًا حيًّا لفكرة أن خدمة الشعب هي أسمى رسالات الإنسان.
ولد جورج حاتم عام 1910 لأسرة مهاجرة لبنانية حملت في قلبها قيم الكدح والعطاء. ومنذ شبابه المبكر، كان شغوفًا بالعلم والبحث. درس الطب في الولايات المتحدة، ثم في الجامعة الأميركية في بيروت، وأكمل تخصصه في جامعة جنيف حيث حصل على الدكتوراه في الأمراض الجلدية والتناسلية.
كان يمكن لهذا الشاب المتفوق أن يختار حياة مريحة في أوروبا أو أميركا، لكنه اختار طريقًا آخر، طريقًا وعِرًا مليئًا بالتحديات، حين شدّ رحاله عام 1933 إلى الصين، بلد الحضارة العريقة، التي كانت تعيش آنذاك محنًا عسيرة من الاحتلال الياباني والفقر والجهل والمرض.
في شنغهاي افتتح حاتم عيادته، لكنه لم يكتف بالطبابة التقليدية. فقد هاله مشهد الفقر المدقع ومعاناة العمال واللاجئين، النساء والأطفال الذين افترشوا الأرصفة. هناك، أيقن أن معركة الطب لا تنفصل عن معركة العدالة الاجتماعية، وأن صحة الناس لا تتحقق إلا بتغيير ظروف حياتهم. فاقترب من الحزب الشيوعي الصيني، وتعرف إلى سونغ تشينغ لينغ، زوجة الدكتور صون يات سن، وإلى شخصيات أممية حملت همّ الصين. ثم جاءت اللحظة المفصلية حين قادته خطواته إلى يانآن، قلب الثورة الصينية، حيث التقى الزعيم ماو تسي تونغ، وأصبح طبيبه وصديقه ورفيق مسيرته.
وخلال حرب المقاومة الصينية ضد الغزو الياباني (1937 - 1945)، كان لجورج حاتم دور محوري، إذ انخرط في الصفوف الأمامية إلى جانب الجيش الأحمر وقادة الثورة. لم يكتفِ بمعالجة الجرحى والمرضى، بل ساهم في بناء البنية التحتية الطبية في مناطق المقاومة. كان صوته أيضًا جسرًا للعالم الخارجي، حيث شارك في إذاعات وكالة "شينخوا" باللغة الإنكليزية، ليكشف للرأي العام الدولي فظائع الاحتلال الياباني، ويعرّف العالم بقضية الشعب الصيني العادلة".
و :"لقد جعل من الطب رسالة مقاومة، ومن الإنسان مركز معركته. وبفضل جهوده وجهود رفاقه من الأطباء الدوليين مثل نورمان بيثون وكوتنيس، أُنشئت المستشفيات المركزية، وتوسعت الخدمات الطبية في المناطق المحررة، مما عزز قدرة الشعب الصيني على الصمود. وهكذا أصبح ما هايدي جزءًا من انتصار الصين في حرب المقاومة ضد اليابان، ليس بالسلاح، بل بالعلم والإنسانية، عبر حماية الحياة وزرع الأمل في قلوب المنكوبين.
في يانآن، لم يكن جورج حاتم طبيبًا فحسب، بل كان قائدًا في بناء المنظومة الصحية الحديثة. أسّس أول مستشفى مركزي في مناطق الثورة، وأطلق برامج لمكافحة الجذام والزهري والأمراض المعدية، وأسهم في تدريب الكوادر الطبية الشابة، لتتحول تلك الجهود لاحقًا إلى شبكة صحية غطت الصين بأسرها. كان يجوب القرى البعيدة على ظهر عربة يجرّها حمار، يعيش بين الفقراء، يأكل مما يأكلون، وينام حيث ينامون. لم يبحث عن مال ولا عن مجد، بل عن رسالة أسمى: أن يكون الطب في خدمة الشعب.
لقد أحبّت الصين جورج حاتم بصدق، ومنحته جنسيتها عام 1949، ليكون أول أجنبي يحصل على شرف الانتماء إليها. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد مجرّد طبيب لبناني أو عربي أو أميركي، بل صار مواطنًا صينيًا بالروح والانتماء، وهو الذي شارك في صياغة السياسات الصحية لجمهورية الصين الشعبية، وأسهم في مكافحة الأوبئة، حتى بات اسمه يقترن بتعبير "باني المنظومة الصحية الصينية".
لكن ما ميّز جورج حاتم حقًا هو أنه لم ينسَ جذوره. ظلّ يفتخر بلبنانيته، ويتحدث عن الشرق الذي أنجب حضارات إنسانية عظيمة. وعندما التقاه والده بعد غياب دام 29 عامًا في دمشق، وسأله: "كم من الممتلكات لديك الآن؟"، أجابه: "لديّ أرض مساحتها 9 ملايين وستمئة ألف كيلومتر مربع، وبيوت الصين كلها لي". بهذا الجواب لخّص فلسفة حياته: ثروته لم تكن مالا ولا عقارا، بل حب الناس وثقة الأمة".
و قميحة:"لقد نال جورج حاتم أرفع الأوسمة، من الصين ولبنان وأميركا والهند وغيرها، وأقيم له تمثال في بلدته حمانا ببادرة من الحكومة الصينية. وبعد وفاته عام 1988، دفن رماده في ثلاثة أماكن أحبها: في بكين بين عظماء الثورة، في بافالو الأميركية حيث نشأ، وفي نهر يانآن حيث بدأت مسيرته مع الشعب الصيني.
إنني شخصيًا كان لي شرف أن أتتبع خطى هذا العظيم. من شنغهاي حيث بدأ رحلته، إلى يانآن حيث التقيت بوهج التاريخ الثوري، وصولًا إلى مدافن عظماء الثورة في بكين حيث يرقد بين رفاقه. وفي كل محطة، شعرت بأنني أستعيد شيئًا من رسالته، وبأن إرثه ما زال حيًا يلهم الأجيال.
ثم عدت إلى حمانا، البلدة التي أنجبته، حيث ينهض تمثاله اليوم شاهدًا على أن هذا الطبيب الذي أحب الصين بصدق، وأحبته الصين بعمق، لم ينسَ جذوره
أبدًا. ففي حمانا، يلتقي الشرق بالشرق من جديد، ويلتقي لبنان بالصين عبر سيرة رجل واحد صار جسرا إنسانيا بين حضارتين".
وختم قميحة :"إن احتفاءنا اليوم بجورج حاتم ليس مجرد تكريم لشخص مضى، بل هو تكريم للقيم التي جسدها: التضحية، الإخلاص، الإيمان بالإنسان، والإيمان بأن الطب والعلم يمكن أن يكونا جسرًا بين الشعوب. وهذه القيم هي نفسها التي تجمع بين الصين ولبنان والعالم العربي، في سعيهم إلى بناء عالم أكثر عدالة وإنسانية.
فلنقف اليوم وقفة تقدير أمام هذا الطبيب اللبناني-الصيني، الذي علّمنا أن الإنسان أكبر من الحدود، وأن العطاء الصادق يخلد صاحبه في ذاكرة الشعوب".
علي العبدالله
وشارك رئيس تجمع رجال وسيدات الأعمال اللبناني الصيني علي محمود العبد الله في الندوة، وقال للمناسبة :" أريد أن أتوجه إلى سعادة السفير شن شواندونغ بالشكر لتكريمه الطبيب اللبناني الأصل جورج حاتم، وعلى وفائه ووفاء الصين لذكرى طبيب آمن بعدالة القضايا الصينية، وهذا يدل على وفاء الحضارة الصينية لأصدقائها التاريخيين".
أضاف :إن قصة الدكتور جورج حاتم، أو البطل الصيني الدكتور "ما هايدي"، هي خير شاهد على عمق وشموخ العلاقات اللبنانية الصينية التي تتجاوز التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي لتمس صميم القيم الإنسانية المشتركة التي تجمع لبنان والصين. لقد غادر هذا الرجل العظيم مسقط رأسه حمانا حاملا معه إرثا لبنانيا عريقا قائما على العلم والعطاء والتفاني والإيمان بالقضايا الانسانية، ليلقى في الصين أرضا خصبة لروحه الإنسانية وليكرس حياته لخدمة قضاياها الكبرى وشعبها. إن مسيرة الدكتور حاتم هي قصة إيمان، إيمان بالجانب الإنساني للمقاومة الصينية والثورة وعدالة قضيتها، فمن طبيب ناجح في شنغهاي إلى عضو بارز في الحزب الشيوعي الصيني وكبير المستشارين الطبيّين للجيش الأحمر، وأول أجنبي يحصل على الجنسية الصينية، أصبح رمزا للتضامن الذي لا يعرف حدودا. لقد فهم، كما نفهم نحن رجال الأعمال اليوم، أن الشراكة الحقيقية تُبنى على الثقة والمنفعة المتبادلة والتزام عميق برفاهية الشعوب".
وختم العبد الله :"إن تجربة الدكتور حاتم تذكرنا بأن العلاقات اللبنانية الصينية ليست وليدة اليوم، بل هي ممتدة في عمق التاريخ، نسج خيوطها رجال استثنائيون مثل جورج حاتم، ووضعوا ركائز متينة للاحترام المتبادل والتعاطف الإنساني. وها نحن اليوم، في تجمع رجال وسيدات الأعمال اللبناني الصيني، نسير على هذا الدرب نفسه، ساعين إلى تعزيز أواصر التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والثقافي مع الصين، مستلهمين روح هذا الرجل الذي حوّل التحديات إلى فرص، والحدود إلى جسور للتواصل. إنه نموذج يُحتذى به، يدفعنا إلى العمل بجهد أكبر لتعزيز شراكتنا الاستراتيجية مع الصين، الشريك الصادق والمحب".
____________. متابعة ==== عايدة حسيني