مصر لإلغاء "اتفاق القاهرة".. أي اتفاق جديد للبنان؟ منير الربيع الخميس

منير الربيع. _ المدن
جاءت زيارة الوفد الأمني السوري الموسع للبنان غداة زيارة رئيس المخابرات المصرية أيضاً. وما صودف كذلك، هو وجود الرئيس السوري أحمد الشرع في المملكة العربية السعودية للمشاركة في قمة مستقبل الاستثمار، بغياب لبنان. على خط العلاقات اللبنانية السورية مسارات مفتوحة في سبيل تطويرها وتحسينها على مستويات مختلفة، في محاولة لفتح صفحة جديدة خالية من كل رواسب الماضي، بنسخته في "بعث الأسدين" أو حتى ما سبقهما من إرث التداخلات والافتراقات والتباعدات بين بيروت ودمشق. أما زيارة رئيس المخابرات المصرية، فيمكن ترميزها بوصفها محاولة لطي صفحة قديمة أيضاً، وهي "إلغاء اتفاق القاهرة" ومفاعيله. ذلك الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في العام 1969 برعاية مصرية هو الذي شرّع الكفاح المسلّح انطلاقاً من جنوب لبنان نصرةً للقضية الفلسطينية.
الخروج من مرحلة السلاح
لا ينفصل التحرك المصري في اتجاه لبنان، عن تحرك القاهرة في غزة ومساهمتها في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، والبحث في مستقبل القطاع، وفي سعيها إلى إقناع حركة حماس بالتخلي عن السلاح. فهي تحاول في لبنان أيضاً إقناع الدولة وحزب الله بالخروج من مرحلة المقاومة المسلحة، والتخلي عن السلاح، والدخول في مفاوضات. وهذا ما جرى التشديد عليه خلال زيارة رئيس المخابرات المصرية الذي دعا إلى التعقل ومواكبة التطورات التي تحصل، وعدم مخالفة الاتجاه العام على مستوى المنطقة، وتجنّب المزيد من الضربات أو التصعيد الإسرائيلي. وفي المقابل، هو أكد ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية الداخلية ومعالجة الأزمات بالحوار والهدوء والتعاون بين مختلف الأفرقاء، لإيجاد الحلّ اللازم لمعضلة السلاح.
مصر تتفهم "وقائع" لبنان
يأتي تحرك مصر انطلاقاً من اتفاق شرم الشيخ، وهو مبني على تنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، في محاولة لتقديم النصائح والتحذيرات للبنان، ومساعدته على سلوك مسار يجنّبه استمرار الاعتداءات الإسرائيلية. تبدو مصر متفهمة للظروف والوقائع اللبنانية، ولنقطة أساسية هي أن معالجة ملف السلاح تحتاج إلى وقت وتوفير مقدرات ومقومات يجدر بالقوى الدولية المهتمة بلبنان تقديمها، وليس الاشتراط عليه أن ينجز كل الشروط المطلوبة منه قبل التفكير في مدّ يد الدعم والمساعدة إليه. وبناء على ذلك، يمكن القول إن لبنان أصبح أمام معادلة واضحة: المفاوضات والعمل الجدي على سحب السلاح وإنهاء حالة الصراع مع إسرائيل، أو مواجهة المزيد من التصعيد.
"فتِّش عن أميركا"
يبقى الأساس هو أن أيّة مبادرة، ولكي تضمن مقومات نجاحها، ستكون في حاجة إلى رعاية ودعم من الولايات المتحدة الأميركية. وفي لبنان، هناك حاجة أيضاً إلى موافقة إيرانية، في ظل مساع مصرية للعب دور تفاوضي جدي بين واشنطن وطهران. ويعني ذلك في وضوح أن كل الأطراف العربية أو الإقليمية التي تسعى إلى الاضطلاع بأدوار على مستوى المنطقة، أو إلى تثبيت النفوذ، ستكون في حاجة إلى التفاهم مع واشنطن. وهذه قاعدة مكرّسة في لبنان تاريخياً، وصولاً إلى "الخماسية" التي كانت تعمل على إنجاز الاستحقاقات الدستورية بناء على التوجه الأميركي.
صيغتان معروضتان على لبنان وسوريا
ما تريده أميركا هو طي صفحة الحرب أو المقاومة وإدماج إسرائيل بالمنطقة، وهو ما يؤكده الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر إعلانه السعي إلى توسيع اتفاقات أبراهام أو اتفاقيات السلام، وإن جاءت على شكل "هدنة طويلة الأمد" تنهي الصراع وحالة الحرب، أو على شكل اتفاقيات على ترتيبات أمنية وعسكرية، وهما الصيغتان المعروضتان على لبنان وسوريا. ففي سوريا تُعرض اتفاقية الترتيبات الأمنية. وأما في لبنان فالمعروض هو الخروج مما أرسته اتفاقية العام 1969، والعودة في اتجاه هدنة الـ1949، مع رغبة إسرائيل في إضافة شروط جديدة عليها.
تحديات الاتجاه غرباً في بيروت ودمشق
تتشابه ظروف سوريا ولبنان تجاه إسرائيل، ولكن تختلف المقاربات لديهما وفيهما. ففي دمشق، هناك قرار واضح بالاتجاه نحو الغرب، وهو ما يتعزز أكثر في العلاقة الآخذة في التطور مع السعودية، بخلاف كل السياق التاريخي، حيث كانت سوريا محسوبة على المحور الشرقي ولو حصلت تقاطعات بينها وبين واشنطن في حقب مختلفة. وهذا يعاكس اتجاه لبنان الذي كان غربياً في تاريخه، لكنه سلك اتجاهات أخرى في السنوات الأخيرة، أو تخلف عن الركب الغربي. وفي أي حال، هو اليوم يسعى إلى الاتحاق بهذا الركب، على الرغم من وجود عثرات كثيرة في الداخل، وشروط أكثر من قبل الغرب أيضاً.
ثورة على شمعون.. وشهاب تحت الخيمة
قبل العام 1969، كانت مصر حاضرة بقوة عبر تأثيرها في لبنان، وتحديداً منذ ما بعد ثورة العام 1958؛ إذ كان لبنان قبلها في الوجهة الغربية الكاملة، ودخل الرئيس كميل شمعون في مفاوضات جدية للانضمام إلى حلف بغداد، الذي أراد مواجهة مصر المتحالفة مع سوريا. والانقسام العمودي في لبنان يومها انفجر في ثورة الـ1958 التي منعت التجديد للرئيس شمعون، ووفرت تسوية سياسية برعاية مصرية أميركية لانتخاب الرئيس فؤاد شهاب. وفي تلك الفترة، راعى الرئيس جمال عبد الناصر الخصوصية اللبنانية أيام الوحدة المصرية السورية، فلم يزر لبنان ولم يطلب من شهاب زيارة سوريا للقائه؛ إنما عقد لقاء الخيمة الشهير.
الأسد.. استثمار الحروب والوصاية على لبنان!
أما المرحلة التي تلت اتفاقية العام 1969، فقد تغير فيها مسار العلاقات اللبنانية المصرية، لا سيما بعد وفاة عبد الناصر، وصعود البعث بحركته التصحيحية بقيادة حافظ الأسد. وأسست هذه التطورات كلها الى جانب عوامل التفجير الداخلي، لانفجار الحرب الأهلية اللبنانية، التي لعبت فيها سوريا أدواراً كثيرة؛ إذ سعت إلى تغذيتها والاستثمار فيها. وبعد اتفاقية كامب دايفيد، غابت مصر عن التأثير في المشهد، في حين تقدمت سوريا التي تعزز دورها بفعل انخراطها في حرب تحرير الكويت مع الأميركيين، وهو ما انعكس "تسليمها للملف اللبناني"، فكانت ما تعرف بالوصاية السورية بناء على تقاطعات مع الولايات المتحدة والسعودية.
القرار اللبناني ولعبة النفوذ
في هذه المرحلة تحديداً، وأمام كل الضغوط التي يتعرض لها لبنان، وفي ظل انقسام سياسي داخلي حاد، وعلى وقع تحوّلات استراتيجية تعيشها المنطقة، يستعيد اللبنانيون كل هذا التاريخ المثقل بالأحداث. ووسط إعادة رسم توازنات المنطقة وخرائطها، يجد نفسه مجبراً على اتخاذ قرار يؤيده البعض ويعارضه البعض الآخر، في حين أنَّ لاعبين كثر يريدون الدخول والتأثير في إطار البحث عن لعبة النفوذ.