«الجماعات السورية» بلا دولة: دعوات «الفَدرلة» أكثر وضوحاً

تكشف الاعتداءات الطائفية على أحياء حمص ذات الغالبية العلوية، هشاشة الوضع الأمني والسياسي في سوريا، في ظلّ احتقان طائفيّ كبير يظلّله تفكُّك بنية المجتمع السوري. وعلى خلفية الاعتداءات التي بادرت إليها مجموعات بدوية من قبيلة «بني خالد»، والحديث عن مشاركة القوات المحسوبة على حكومة دمشق فيها، جاءت التحرّكات الشعبية التي دعا إليها رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر، الشيخ غزال غزال، في مناطق الساحل والوسط، وسط مطالبة المحتجّين بـ»الفدرالية» والانفصال عن حكم سلطة «هيئة تحرير الشام»، لتؤكّد وصول «الجماعات السورية» المتضرّرة من غياب الدولة الوطنية، إلى مرحلة «اللاعودة» في العلاقة مع سلطة دمشق.
وفي حين تبدو «الجماعات» الدينية والإثنية المختلفة، كالدروز والعلويين والأكراد والشيعة وبدرجة أقلّ المسيحيون والإسماعيليون، هي الأكثر تضرّراً من السلطة الانتقالية، إلّا أن الوقائع في المدن الكبرى من مثل دمشق وحلب وحماه ودير الزور ودرعا، تكشف عن أن الضرر الحقيقي أصاب الغالبية من المواطنين السورييين من مختلف الانتماءات الدينية والمذهبية والإثنية، خصوصاً الأغلبية التي تنتمي إلى الإسلام السنّي المحمدي، بمدارسه المختلفة في سوريا والشام عموماً، والتي تتعرّض لحملة شعواء من حَمَلَة الفكر التكفيري الوهّابي.
وبينما يستعرّ الصراع «السنّي - السنّي» شيئاً فشيئاً تحت رماد التشويه الإعلامي للوقائع، الذي يشنّه الإعلام الخليجي وبعض الغربي، تتبلور يوماً بعد آخر الدعوات إلى الانفصال من قبل الجماعات الأخرى، مدعومةً بوقائع دموية أفرزتها غزوات القوات المحسوبة على الحكومة في الساحل وصحنايا وجرمانا والسويداء والشيخ مقصود وعفرين، حيث لا يتوقّف عدّاد الضحايا، خصوصاً من العلويين.
وتدفع محاولة السلطة ترسيخ هيمنة «هيئة تحرير الشام» - والشرع خصوصاً - على مفاصل الحُكم والاقتصاد، في ظلّ استمرار سياسة القتل والتهجير والإلغاء والإخضاع بالقوّة، متسلّحةً بدعم غربي - تركي - خليجي، بالجماعات السورية إلى البحث عن إطار تعاون وسقف شبه موحّد للمطالب المرتفعة.
وبرز هذا المشهد أوّلاً في المؤتمر الذي عقدته «الإدارة الذاتية لشرق سوريا» في الحسكة قبل أشهر، ثم جاءت مُطالبة قائد «قوات سوريا الديمقراطية» مظلوم عبدي، قبل يومين، بمشاركة العلويين والدروز في المفاوضات مع دمشق، بمثابة استراتيجية جديدة لتعزيز الموقف المشترك بوجه الشرع، وتجاوزاً لاتفاق العاشر من آذار الماضي. وتكتسب مواقف عبدي الأخيرة، ولا سيما تلميحه إلى تعليق الاتفاق المذكور مع دمشق محمّلاً السلطة الانتقالية المسؤولية عن استمرار التوتّر، أهميّة خاصة، في ظلّ الاشتباكات اليومية بين «قسد» والقوات الحكومية على جبهات الفرات، وتسريب «قسد» صوراً لمقاتلين من تنظيم «داعش» يطلقون الطائرات المُسيّرة على نقاط تابعة لها، من مواقع تابعة لقوات السلطات الانتقالية. وتسبّب وثائق من هذا النوع حرجاً شديداً للشرع أمام قوات «التحالف الدولي»، إذ تنسف كل جهوده لتظهير نفسه شريكاً في مكافحة التنظيم، والأهم أنها تعطي مصداقية لمخاوف «قسد» أمام التحالف، وتعزّز مطالب الكرد بالانفصال والتباعد عن دمشق.
التدخُّل الإسرائيلي
على أن مواقف عبدي المتشدّدة، وتلميحه أيضاً إلى تقدُّم العلاقات مع كردستان العراق بعد زيارته إلى الإقليم ولقائه مسعود بارزاني في أربيل، تأتي على الرغم من المعلومات عن أن سلطة دمشق قدّمت تنازلات مهمّة للأكراد، لجهة استيعاب «قسد» ككتلة واحدة في الجيش السوري الجديد، كما يريد الأميركيون. لكنّ السلطات الانتقالية عالقة خلف التشدّد التركي والرأي العام المؤيّد لها، والذي تحرّضه بانتظام ضدّ السوريين فتضطرّ أن تخفي تنازلاتها عنه.
وباتت المطالب السياسية في السويداء، حيث يتصدّر الشيخ حكمت الهجري المشهد مع قوات «الحرس الوطني»، أكثر وضوحاً أيضاً، ولا سيما منذ المجزرة والتدخُّل الإسرائيلي المباشر لاستغلال غزوة قوات الشرع والعشائر للمحافظة، والتي خلّفت آلاف الضحايا والمفقودين. ومع كلّ اشتباك «حدودي» بين نقاط الأمن العام والعشائر في الريف الشرقي والشرقي الشمالي لدرعا وقرى ريف غرب وشمال السويداء التي يسيطر عليها «الحرس الوطني»، تتعمّق الهوة بين جبل حوران وسلطة دمشق، فيما تستمرّ التوتّرات بين الطرفين، على رغم وجود رسائل «تحت الطاولة» ترسلها دمشق إلى السويداء عن قبولها بشبه إدارة ذاتية للمحافظة على غرار الإدارة الذاتية في الشرق. وفي حين تحاول السلطات الانتقالية فرضَ اتفاق عمّان حول السويداء بالقوّة والحصار، يذهب الشيخ الهجري بعيداً في الرّهان على الدور الإسرائيلي، مع التحوّل الكبير الذي أحدثته المجازر في المزاج العام للمحافظة تجاه العلاقة مع إسرائيل، وتركيز تل أبيب نشاطها الواسع في الجنوب السوري.
وفي وقت يهرول فيه الشرع لعقد صفقة مع الاحتلال تحت مسمّى «اتفاق أمني»، كانت لجنة الأمن في «الكنيست» تناقش فكرة الاتفاق الأمني بكثير من الازدراء للسلطات الانتقالية، مع وصف النواب للشرع بـ»الإرهابي»، والإشارة إلى ضرورة «حماية الدروز»، التي يكرّرها بشكل مستمرّ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. وعزّزت إسرائيل من إشرافها العسكري والأمني على المحافظة الجنوبية، في حين تركّز حالياً على البدء في تشكيل قوات مدرّبة من الدروز على مراحل، وبتعداد قد يصل إلى 15 ألف مقاتل وضابط، يقودهم ضباط دروز من جيش الاحتلال في غرفة عمليات في الجليل.
وممّا لا شّك فيه، أن الصمت التركي والقطري والسعودي الرسمي والإعلامي، عن الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها القوات الحكومية والميليشيات القَبلية التابعة لها، وإعلان الدعم غير المشروط للسلطة الانتقالية، كل ذلك يدفع الدروز أكثر فأكثر نحو الحضن الإسرائيلي.
ويَظهر أن هذا المسار الأمني السياسي، يتكرّر في الساحل، مع استمرار الانتهاكات اليومية بحقّ العلويين، وممارسة تركيا وقطر والسعودية سياسة عدم الضغط على الشرع والجماعات الملتحقة به، ووقوف الدول العربية الأخرى موقف المتفرّج. من جهتها، تترقّب تل أبيب لحظة «نضوج» استسلام العلويين لطلب التدخُّل الإسرائيلي، جراء الشعور بالخذلان التامّ من كل الدول العربية والإسلامية، بما فيها إيران، التي لم تندّد بالجرائم المرتكبة في الساحل أو السويداء.
على أنّ شيئاً لا يوقف تفكّك سوريا اليوم وخسارتها أرضها أمام التوسّع الإسرائيلي، إلّا خروجها من تحت السلطة الأوتوقراطية المتطرّفة التي تسيطر على دمشق، بعملية انتقالية سياسية لنظام تعدُّدي، يحاول أن يحمي ما تبقّى من تنوّع النسيج السوري ووحدته... وهذا أضعف الاحتمالات المستقبلية.
فراس الشوفي