هل يمكن فتح «الصندوق الأسود» للنظام اللبناني؟

هل يمكن فتح «الصندوق الأسود» للنظام اللبناني؟

هل يمكن فتح «الصندوق الأسود» للنظام اللبناني؟


رأي القدس


استجوب وفد قضائي أوروبي رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، بعد تمنع، وحقق معه في قضايا تبييض أموال وإثراء غير مشروع وتهرّب ضريبي، وحضر القضاء اللبناني التحقيق بشخص قاضي التحقيق الأول شربل أبو سمرا.

جاء التحقيق الأوروبي مع سلامة بعد الكشف قبل سنتين عن امتلاكه شركات ومنازل في أوروبا وتحويله مبالغ ضخمة إلى الخارج (الحديث يدور عن 330 مليون دولار و5 ملايين يورو) وهو ما أدى إلى تجميد أصول عينية ونقدية وحسابات بنكية لسلامة، في موناكو ولوكسمبورغ وفرنسا، تعادل قيمتها قرابة 130 مليون دولار، وكذلك التحقيق مع شقيقه رجا وابنه نديّ في إدارة شركات منسوبة له.

رغم المتابعة اللبنانية للتحقيق القضائي الأوروبي، فإن هذه السابقة تشير إلى إدراك دولي ولبناني بأعطاب المنظومة القضائية اللبنانية، وعجزها عن فضح قضايا كبرى، بينها انهيار النظام المالي، الذي يمكن اعتبار القضايا المتهم بها سلامة أحد ظواهره، والتي يكتنفها العديد من الأسرار والفضائح.

يشغل سلامة منصب حاكم المصرف المركزي منذ عام 1993، واعتبر مسؤولا عن مرحلة تعافي الاقتصاد اللبناني ما بعد الحرب الأهلية، ولكن هذا المسؤول الكبير الذي كان المديح يُكال له عن دوره في ازدهار البلاد واستقرار عملتها الوطنية، وتقدم له الجوائز العالمية وأوسمة الشرف، أصبح الآن متهما بغسل أموال وتهريبها للخارج، وهي تهم تهون، تاريخيا، أمام مسؤوليته، والطبقة السياسية اللبنانية البائسة، عن انهيار البلاد الاقتصادي المريع.

في جلسة الاستجواب التي دامت خمس ساعات، حاول سلامة دحض الاتهامات الشخصية ضده بالقول إنه جمع ثروته من عمله لعقدين في مؤسسة «ميريل لينش» المالية العالمية، ومن استثمارات في عدة مجالات، ولكن من الصعوبة الكبيرة على اللبنانيين استيعاب المنطق في هذا الدفاع عن شخص يتفاخر بجنيه كل هذه الثروة الهائلة، في الوقت الذي كان أحد المسؤولين عن أزمة اقتصادية صنفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، والتي أدت إلى إفقار عامّ للبنانيين!

راكمت الدولة اللبنانية في عهد سلامة ديونا طائلة عليها، وكان دور حاكم المصرف المركزي، عمليا، تأمين السيولة لمزيد من مراكمة الديون، من دون احتساب النتائج الكارثية لانهيار النظام اللبناني على اللبنانيين وبلادهم.

بهذا التواطؤ التاريخي البائس بين الحكومات الشرهة للفساد وحاكم المصرف المركزي، انهارت عملة البلاد وفقدت 98٪ من قيمتها، وتم الاستيلاء على مليارات الدولارات من أموال المودعين اللبنانيين والعرب، في الوقت الذي تداول اللبنانيون أخبار إخراج كبار حيتان التحالف السياسي ـ المالي في لبنان، وسلامة نفسه، أموالهم من البنوك اللبنانية إلى الخارج.

يعاني النظام السياسي اللبناني حاليا من عجز النواب اللبنانيين عن التوافق على رئيس جديد بعد انتهاء ولاية ميشال عون، لكن هذا الجمود البرلماني المانع لتسوية، سيتحوّل إلى أشكال من الاستنفار لأطراف المنظومة اللبنانية، وأتباعها في أجهزة الأمن والقضاء والبرلمان والإعلام، إذا شعرت أن التحقيق سيؤدي إلى فتح «الصندوق الأسود» لفضائح أركانها الكبار.

من الممكن تخيّل ماذا يدور في أروقة الجهات اللبنانية التي تآمرت على مواطنيها وتواطأت على السقوط المريع للبلاد فهذا أمر عاينه اللبنانيون في قضايا أخرى كبرى، مثل قضية تفجير مرفأ بيروت واغتيال رفيق الحريري. الأغلب أن طبقة المتورطين والمستفيدين الذين نهبوا البلاد والعباد، يتحسسون جيوبهم وأسلحتهم، بانتظار أن يقوم التحقيق الأوروبي بتدوير الزوايا للتركيز على سلامة وعائلته، كما حصل في التحقيق في اغتيال رفيق الحريري، ليكون كبش فداء النظام الفاسد دوليا، وأن يتجنب المناطق المظلمة التي تقود إلى القرارات السياسية التي قادت للانهيار.

سيتساءل عموم اللبنانيين، في الوقت نفسه، إن كان يمكن لهذا التحقيق أن يتحوّل لاتهام فعلي ومحاكمة لسلامة، في لبنان، أو خارجه؟ وهل بإمكان القضاء اللبناني محاكمة حاكم المصرف المركزي فعلا، مع إمكان فتح ملفات كل المتورطين في الاتهامات، أم أنه سيُمنع وتوضع العراقيل في وجهه، كما حصل مع القاضي طارق البيطار في ملف تفجير مرفأ بيروت؟

سلامة، باختصار، لم يكن اللاعب الوحيد في هذا الملف، والكشف عن أسراره، يمكن أن يضيء على أدوار أطراف كثيرة حمت وجوده، واستفادت، بطريقة أو أخرى، من الملفات التي يجري التحقيق فيها، فهل سيفتح التحقيق «الصندوق الأسود» للطبقة السياسية اللبنانية، وهل سيرى اللبنانيون كل وجوه الأشخاص المسؤولين عن كارثتهم تحت قوس العدالة وخلف قضبان الزنازين؟!