بين الحراك الداخليّ والتحوّلات الإقليميّة: أيُّ سياسة لبنانيّة؟

بين الحراك الداخليّ والتحوّلات الإقليميّة: أيُّ سياسة لبنانيّة؟

الكاتب: إيلي القصيفي | المصدر: اساس ميديا

10 نيسان 2023

عاد الحراك الداخلي ليأخذ زخماً جديداً بعدما كان قد خفت بعض الشيء مقابل تسارع وتيرة المتغيّرات الإقليمية والدولية التي تطال بتداعياتها إلى هذا الحدّ أو ذاك الداخل اللبناني.

العنوان الرئيسي للحراك الداخلي الآن هو ممانعة الأحزاب المسيحية لانتخاب مرشّح “الثنائي الشيعي” سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، خصوصاً بعد زيارته الأخيرة لباريس التي أكّدت أنّ صفحة ترشيحه لم تُطوَ، بل على العكس فهو ما يزال متقدّماً بين المرشّحين ما دام الحزب متمسّكاً به ولم يُعطِ أيّ إشارة جدّيّة توحي باستعداده لتبنّي أيّ مرشّحٍ سواه.

باريس مجدّداً

على الرغم من عدم نجاح فرنسا في تحقيق أيّ خرق جدّيّ في جدار الأزمة اللبنانية منذ زيارة الرئيس ماكرون لبيروت في 6 آب 2020، ما تزال الطرف الدولي الأكثر قدرة على التحرّك بين الأطراف الداخلية والخارجية المعنيّة بالانتخابات الرئاسية. وإذا كانت علاقاتها مع إيران قد تأثّرت سلباً نتيجة دعم الأخيرة لروسيا في حربها على أوكرانيا وبسبب موقف باريس من الاحتجاجات داخل إيران، فلم تظهر في المقابل أيّ إشارات جدّيّة إلى تراجع وتيرة العلاقة بين الدبلوماسية الفرنسية والحزب في لبنان، وهذا مع الأخذ في الاعتبار أنّ مستوى التشنّج الفرنسي – الإيراني انخفض في الفترة الأخيرة.

قبل ذلك لا بدّ من التأكيد أنّ الملفّ اللبناني هو ملفّ رئيسي بالنسبة إلى الفرنسيين باعتبار أنّه يوفّر لهم “موطئ قدم” في منطقة يتزاحم فيها اللاعبون الدوليون. ولذا لا تهتمّ باريس بشخص الرئيس بقدر اهتمامها بانتخابه إذا كان هذا الانتخاب يوفّر قدراً من الاستقرار الداخلي يتيح توزيع النفوذ الإقليمي والدولي في التركيبة السياسية – الاقتصادية للحكم في لبنان، أي أنّها لا تمانع وصول فرنجية في حال توافرت ظروف انتخابه ولو كان مرشّح الحزب. بل على العكس، يشكّل ترشيحه من قبل الحزب حافزاً إضافياً لباريس لكي تحاول تأمين غطاء دولي وعربي لانتخابه، خصوصاً في ظلّ المتغيّرات الإقليمية، وأهمّها الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية.

 

والأساس أنّ دعم فرنسا لأيّ مرشّح رئاسي مرتبط بموافقة الحزب على انتخابه، أي أنّ استبعاد باريس ترشيح فرنجية يحصل في حال استبعده الحزب لا بسبب موقف فرنسي منه، أو نتيجة رغبة “الأمّ الحنون” في الوقوف على خاطر الأكثرية المسيحية.

وهذا سبب الاندفاعة المتزايدة في الوسط المسيحي لرفض فرنجية بعد زيارته باريس، لأنّ الاتفاق السعودي – الإيراني يعزّز الطموح الفرنسي لإنتاج مسوّدة تسوية بشأن الرئاسة اللبنانية، وإن لم تكن قادرة لوحدها على صياغة تسوية متكاملة وإقناع جميع الأطراف بالسير بها، لكنّ دورها اكتسب الآن زخماً إضافياً، وهو ما يزيد من أهميّة زيارة “الزعيم الزغرتاوي” للعاصمة الفرنسية.

الممانعة المسيحيّة

بالموازاة يعيد الرفض المسيحي لانتخاب فرنجية إلى الواجهة الخلافات الطائفية بشأن تركيبة الحكم التي تُظهر أكثر فأكثر، مع استمرار الفراغ الرئاسي وفي ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة، استعداداً مسيحيّاً أكبر للتمرّد على النظام السياسي، بغضّ النظر عن قدرة الأطراف المسيحية على ترجمة هذا التمرّد.

والحال هذه لا يمكن مقاربة الطروحات المسيحية لإعادة النظر في النظام كما لو أنّها “نزوة سياسية” آتية من فراغ. إذ هي تستند في الواقع إلى مخاوف واعتراضات مسيحية تتجاوز مسألة انتخاب رئيس الجمهورية، وتربط بين أزمة الرئاسة وأزمة “الصيغة”، أي طريقة “توزيع” الحكم بين الطوائف. وهي مخاوف يحفّزها الانهيار الاقتصادي الذي ولّد شعوراً عميقاً لدى المسيحيين بأنّ لبنانـ”هم” سقط دفعة واحدة، وأنّهم سيكونون “أغراباً” في “لبنان الجديد”، خصوصاً في ظلّ المتغيّرات الديمغرافية وسهولة إنتاج تسوية سنّية – شيعية بعدما أصاب التشتّت الحالة السياسية السنّية.

في الراهن السياسي تنبع ردود الفعل المسيحيّة من إحساس متزايد لديهم بأنّ احتمالات التوافق السنّي – الشيعي على مرشّح رئاسي، سواء كان فرنجية أو سواه، موجودة وتتقدّم، خصوصاً في ظلّ الوضع الإقليمي الجديد وعدم صدور موقف سنّيّ راجح وحاسم يرفض انتخاب فرنجية ويعلّل ذلك، بين أسباب أخرى، برفض الغالبية المسيحية لانتخابه كما يفعل وليد جنبلاط حتّى الآن، أقلّه في العلن.

 

لكنّ الأهمّ أنّ الهواجس المسيحية لا تأتي من الداخل وحسب، بل من الخارج أيضاً في ظلّ دخول المنطقة مرحلة جديدة تعزّز إمكانات تسوية الأزمات الإقليمية تباعاً، وإن كان اكتمال معالم المسارات الإقليمية الجديدة يحتاج إلى مزيد من الوقت.

وفي ما يخصّ لبنان لا يمكن القول إنّ المسار الإيراني – السعودي كافٍ لوحده لإنتاج تسوية متينة في ظلّ استمرار المواجهة الإقليمية بين أميركا وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، وهو ما يُترجم على الأراضي السورية بوتيرة شبه يومية.

من جهتها، توظّف طهران الاتفاق مع السعودية في سياق صراعها مع واشنطن، وتلعب على تناقضات العلاقة بين السعودية وأميركا. كلّ ذلك يمكن أن ينعكس تشدّداً أميركياً ضدّ إيران في لبنان، مخفّفاً من انعكاسات الاتفاق الإيراني – السعودي عليه.

في السياق عينه ليست دفعات العقوبات الأميركية على أشخاص في لبنان وسوريا، وفي هذه اللحظة بالذات، سوى تأكيدٍ على “حضور” واشنطن في هذين البلدين. لكن في المقابل تنتشر أنباء عن استعداد أميركي وأوروبي لـ”اتفاق مؤقّت” مع طهران، وهذا يمكن أن يقلبَ هذه المعادلة.

غياب “الهامش الداخليّ”

أيّاً يكن من أمر فإنّ الخشية المسيحية من تسوية إقليمية – دولية بشأن لبنان لا تأخذ هواجسهم في الاعتبار تزداد ولا تنقص. وهي هواجس تستعيد مرحلة اتفاق الطائف في مطلع التسعينيات، باعتبار أنّ حجم التسوية في حال تمّت سيكون أكبر من أن يؤخذ التحفّظ المسيحي عليها في الحسبان.

لكن على الرغم من كلّ هذه التحوّلات لا يوجد شيء حاسم حتّى الآن لجهة بقاء معادلة “فرنجية أو الفراغ” أو قبول الحزب بمرشّح آخر أكثر قدرة على تأمين توافق داخلي وخارجي من حوله، وهو ما يُحيلنا إلى حقيقة الرفض المسيحي لترشيح فرنجية الذي لا يمليه ترشيح الحزب له، بل إنّ دافعه، أقلّه من جانب التيار الوطني الحر، قائمٌ على حسابات سلطوية.

انطلاقاً ممّا سبق لا تنطلق وحدة القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر في رفض فرنجية من رؤية مسيحية شاملة للأزمة اللبنانية تشكّل محاولة الحزب فرض إرادته السياسية على سائر اللبنانيين عنوانها الرئيسي، بل إنّ قوام هذه الوحدة هو رفض فرنجية بذاته تبعاً لمقتضيات الصراع السياسي بين الزعامات المارونية. وهو ما يجعل هذه الوحدة هشّة وقابلة للانفراط في أيّ وقت. والأهمّ أنّها وحدة تخلق توازناً سلبياً لا إيجابياً ضمن اللعبة السياسية، باعتبار أنّها تعبّر، أقلّه من جانب العونيين، عن حساسيّات شخصية وسلطوية، ولا تلامس بعمق “مشكلة الحزب” وتأثيراتها على مجمل الوضع اللبناني.

في المقابل لا يأتي القبول السنّيّ بانتخاب فرنجية أو رفض انتخابه بالضرورة من كونه مرشّح الحزب، بل بالنظر إلى مقتضيات التسوية الإقليمية – الدولية بشأن لبنان. وبذلك يصبح الحزب هو الطرف الطائفي الثابت في المعادلة اللبنانية بينما تدور سائر الأطراف الطائفية من حوله.

وهذا ليس في نهاية الأمر سوى إعادة تدوير للأزمة اللبنانية، في ظلّ غياب أيّ مشروع جدّيّ لخلق هامش سياسي داخلي بإزاء المتغيّرات الإقليمية، باعتبار أنّ أيّ تسوية بشأن لبنان لا يمكنها حلّ “مشكلة الحزب”، بل إنّ هذه التسوية ستؤدّي في ظلّ الظروف الحالية إلى تكريس الأمر الواقع الذي يفرضه الحزب أيّاً يكن مرشّحه لرئاسة الجمهورية. فماذا يبقى من السياسة المسيحية أو الإسلامية أو التغييرية وقتذاك؟!