الشيخ أحمد عسّاف شهيد الجرأة في القول والموقف..

الشيخ أحمد عسّاف شهيد الجرأة في القول والموقف..

الشيخ أحمد عسّاف شهيد الجرأة في القول والموقف..

إدمون رزق* - الجمعة 28 نيسان 2023




الشيخ أحمد عسّاف، شهيدُ لبنانَ كلِّه، شهيدُ الإِسلامِ، ديناً يأمرُ بالمعروف ويَنهى عن المُنكَر، شهيدُ الوطنِ الرسالة، تلميذُ الفرير (إخوَة المدارس المسيحية)، إِمامُ مَسجدِ عائشة بكّار، رائدُ المركزِ الإسلاميّ، جامعُ الأَلقابِ وحُسنى الصِفات، على تواضُعٍ مَعْرِفيٍّ وزُهدٍ راشديّ.


‎يَشوقُني اليوم ويُشجيني، أنْ أمثُلَ على مِنْبَرِه، في ذكراهُ، وظِلُّهُ وارفٌ حتى مداه، تخفقُ له القلوبُ، من صَحْبٍ وأهلٍ، أُحيّيهِم، بَدءاً بأخي عليٍّ، أخيه، والشيخ محمد، نجلِه، الذي سَعِدتُ برؤيتِه فتىً نجيباً، ومواكبةِ مسيرتِه مُعْتَمّاً، ثمَّ فَرِحْتُ به قاضياً عالماً، في خُطى الأبِ والجَدّ، إلى نُخبةِ الأعلامِ المتّقين وصَفوَةِ الأوفياء.



الشيخ أحمد عسّاف، شهيدُ لبنانَ كلِّه، شهيدُ الإِسلامِ، ديناً يأمرُ بالمعروف ويَنهى عن المُنكَر، شهيدُ الوطنِ الرسالة، تلميذُ الفرير (إخوَة المدارس المسيحية)، إِمامُ مَسجدِ عائشة بكّار


‎الشيخ أحمد عساف، الإنسانُ النبيل، المواطنُ الشريف، المُشْبَع ثقافةً وعلماً، لقيتُه أوّلَ مرّة (سنة 1966)، في جامع رمل الزيدانية، حيث كنّا خطيبَيْ الاحتفال بذكرى "فتح مكّة"، المصادفةِ الحاديَ والعشرينَ من شهر رمضان... وشاركتُ في حلقة ذكر، تَقدّمَها، على الطريقة الشاذليَّة، التي يتوارثُ آلُ عسّاف مشيختَها، إلى جانب آل اليشرطيّ.


‎على مرِّ السنين، ازدادت معرفتي به وثوقاً، فألفيتُهُ طاقةَ نشاطٍ وإنتاج، حسنَ الشمائل، صافيَ الإيمان، صادقَ المَوَدّة، ناذِراً نفسَهُ للخدمةِ العامّة، الدينية، الوطنيةِ والاجتماعية، بحّاثةً علّامةً، ومؤلِّفاً ثقةً.


أحفظ عنه، جرأةً في القولِ والموقف، إلى دماثةِ خُلُق، وخِفّة ظلّ.


ذكريات قبل الاغتيال


قبلَ أسابيعَ من اغتيالِه، زارني في الأشرفية، حاملاً إليّ مجموعةَ كتبِه، ومن ضمنها آخرها "الحلالُ والحرام في الإسلام"، وقد رافقه صَحْبٌ كريمٌ من إخوانِه العلماء، فكان لطلّتِهم، بالعمائمِ البيض، وقعٌ مستحبّ، وما زالت في أذني عبارات الترحيبِ والتبريك العَفْوِيّة، التي أَطلقها عشراتُ المارّة، عندما رأوا أصحابَ الفضيلة يجتازونَ رصيفَ منزلِنا، بزهوٍ وانشراح، وكأنّهم جاؤوا يبشّرون بانتهاءِ المحنة، ويعلنون تحقيقَ الوِفاق :


الشهيدُ الشيخ أحمد عساف المصلّى عليه بدمِه، أمس، صنعَ في وطني آيةً. حقّق ما عجزتْ عنه مبادراتُ عربٍ وعجم، توصياتُ مجالسَ، بياناتُ مؤتمراتٍ، وقراراتُ قِمَم.


‎الشيخ أحمد عسّاف، المؤمـنُ الصادق، ماتَ عن قضيّة. شهدَ بحياتِه لرسالة. لبنان كان قضيَّـتَـه ورسالتَه. لبنان، الوطن الحرّ والدولة السيّدة المستقلّة، لبنان الشعب الواحد.


‎رئيسُ المركز الإسلامي، زينُ العلماء، مِقدامُ زمانِه، الشيخُ المغوار، كانت أمنيتُه أن يرى شملَ اللبنانيين مجتمعاً، مسلمين ونصارى، حولَ الشرعيّةِ الواحدة. فأبى أن يتقوقع في شارع أو منطقة. انتفضَ لكرامةِ قومه، حتى أصبحَ رمزاً للوحدة الوطنية، وعنواناً لرفض الأمر الواقع.



الشهيدُ الشيخ أحمد عساف المصلّى عليه بدمِه، أمس، صنعَ في وطني آيةً. حقّق ما عجزتْ عنه مبادراتُ عربٍ وعجم، توصياتُ مجالسَ، بياناتُ مؤتمراتٍ، وقراراتُ قِمَم


‎إنّه شهيدُ إيمانِه، وشهيدُ وطنيّته.


تمنّيتُ لو يُطافُ بنعشِه في لبنانَ كلِّه، على امتدادِ الشاطئ وارتفاعِ الجبل، ويُحْمَل على الراحاتِ جسدُه المُمَزَّقُ بالرصاص، فتتوحَّدُ الأمّةُ المبدّدةُ حولَ دمِه الطاهر.


‎أمّا أنت، يا أخي، يا شيخ أحمد، فهنيئاً لك أن أدَّيتَ الشهادة، جمعتَ قومَك في مأتمِك، ووحّدتَ شعبَك حداداً عليك، فخراً بك، إدانةً للقتلة، وتزكيةً لما به آمنت.


تموز 1979.. والمبادرة


كما كانت لنا معاً مبادرةٌ استثنائية، عندما عقدنا لقاءً تاريخياً، في الرابعِ من تموز 1979، اعتُبرَ اختراقاً فريداً للانقسامِ الطائفيّ السائد، في قصر منصور، المقرِّ المؤقّت لمجلس النواب، أروي تفاصيلَه كما أوردَتْها الصحفُ يومذاك:


‎"عند الساعة العاشرة من قبل ظهر الأربعاء 4 تموز 1979، عُقد في "قصر منصور" اجتماع ضمَّ (الوزير السابق النائب) إدمون رزق، ووفداً من العلماء المسلمين مؤلّفاً من أصحاب الفضيلة: الشيخ أحمد عساف رئيس المركز الإسلامي، ورئيس اتحاد الجمعيات والمؤسسات الإسلامية، والشيخ حسن تميم قاضي شرع بيروت، الشيخ محمد غزال مفتّش جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، الشيخ طه عدره، الحاج عبد الرحمن الحوت رئيس الشؤون الإسلامية في دار الفتوى، الحاج عبد الرحمن محمد علايا (نجل سماحة مفتي الجمهورية السابق الشيخ محمد علايا) كاتب المحكمة الشرعية".


بعد ساعتين من التداول، تلا الشيخ أحمد عساف، باسم المجتمعين، بياناً بالمبادئ الأساسية للحوار الوطني، وهي الآتية:


‎1- مراجعةُ حسابات السنوات المظلمة الماضية.


‎2- استخلاصُ العِبَر من الأَخطاء التي ارتُكِبَت على الساحةِ اللبنانية.


‎3- إِعادةُ التلاحمِ بين الفئات اللبنانية، على أساسِ المشاركةِ الحقيقية في مسؤوليّةِ الحُكمِ والإدارة.


‎4- تقديمُ الدعمِ الكامل للشرعيّة، وتقويةُ مؤسّساتِ الدولة.


5- إحياءُ الدورِ اللبنانيّ، في المحيط العربيّ والحقل الدولي، لخدمةِ القضايا اللبنانية والعربية، وتعزيز التضامنِ بين الأشقّاء العرب.


‎6- رفضُ التعاملِ مع إسرائيل، إدانة كلّ أنواع العَمالة، وتوحيدُ الجهود لدرءِ الخطرِ عن الجنوب.


‎7- وضعُ ورقةِ عملٍ وجدولٍ زمنيّ لإعادةِ بناءِ العلاقات الصحيحة بين الطوائفِ اللبنانية، وتقدّم المجتمعِ والوطن.


‎8- متابعةُ اللقاءات وتوسيعُ نطاقِها، لتشملَ جميعَ العاملينَ من أجلِ وحدةِ لبنانَ وسيادتِه.


إقرأ أيضاً: ذكرى نزار قبّاني: سفور النساء والهزائم شعراً جماهيريّاً للمتعلّمين


ذلك كان أوّلَ حوارٍ مخلص وجدّيّ، بعد تفشيل "هيئة الحوار الوطني" سنة 1976، التي شاركتُ فيها شخصياً، ولها حديثٌ آخر ذو شجون. ثمّ جاءَ إعلانُ المغفور له الرئيس الياس سركيس المبادئَ الأربعةَ عشرَ للوفاق، التي عُرفت بـ "الثوابت المسلّمات"، وتضمّنتْ بنودَ بيانِنا. كما وضعْنا أيضاً، في المجلسِ النيابي، وثيقةً وقّعها رؤساء الكتل، بروحِ بيانِنا ذاته، وقد شاركتُ فيها شخصياً.