إسرائيل تتوقّع "تطرّفاً نوويّاً" إيرانيّاً: لاستباق التهديد قبل تشكّله
تصعّد إسرائيل استراتيجية «التحريض» على إيران، من خلال الترويج، عبر كل ما يُقال ويكتب في الداخل الإسرائيلي، لفكرة أنّ طهران ستلجأ إلى «تطوير» قدراتها النووية، كردّ فعل على التهديدات المتزايدة التي تواجهها. ومن خلال إجراء جردة للمواقف الإسرائيلية «الوازنة»، يبدو أنّ الاستراتيجية المشار إليها تهدف إلى إعطاء تل أبيب ذريعة للعمل ضدّ «إيران النووية»، ولا سيما في المرحلة الراهنة، التي تراكم فيها إسرائيل وداعموها «الإنجازات»، مقابل «تراجع» المحور الآخر، وفي وقت تبدو فيه البيئة الدولية والإقليمية «مؤاتية» للتصعيد ضدّ إيران، وتحديداً مع اقتراب وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومقاربته العدائية جدّاً لها.
وبدأ هذا النفَس التحريضي يظهر بوضوح في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة، وما تبعها من حرب في لبنان وانتهائها باتفاق لوقف إطلاق النار، قبل أن يكتسب زخماً كبيراً بعد سقوط النظام في سوريا. إذ يرجح بعض صنّاع السياسة في تل أبيب أنّ التطورات الأخيرة على الساحة السورية تفتح الباب أمام فرص تفوق «التهديدات»، ويرون حتى إن هذه الأخيرة «غير يقينية»، على الرغم من أنّ البعض الآخر في إسرائيل يتخوّفون من أن المخاطر ستكون «مرجحة جداً» على المدى البعيد.
ولم يعد الحديث في الشأن النووي الإيراني يقتصر على المعطيات التقليدية المتعلقة حصراً بقرب أو بعد وصول طهران إلى نسبة التخصيب الضرورية لإنتاج قدرة نووية عسكرية، بل وصل حدّ البحث في المكان الذي تنوي إيران «إجراء تفجيرها النووي الأول تحت الأرض» فيه، فيما رجّحت مراكز بحثية عبرية أن تتمّ العملية «في صحراء دشت كافير»، المعروفة أيضاً باسم صحراء «الملح الكبرى»، في الوسط الشرقي لإيران، في محاولة للإيحاء بأنّ النسبة المطلوبة للتخصيب والتجربة أصبحت «تحصيل حاصل». وبالعودة قليلاً إلى الوراء، فقد اتّضح، بعد مفاجأة «طوفان الأقصى»، حجم المبالغة غير المنطقية في التقديرات الاستخباراتية الإسرائيلية، والتي كانت تؤكد أنّ وجود تهديد من قطاع غزة يعادل «صفراً مضاعفاً»، وتحظى بإجماع تام في أوساط مسؤولي الاستخبارات في الكيان. واستندت التقديرات المشار إليها إلى مقاربة خاطئة لـ«نيّة العدو»، أي المقاومة، شنّ عمليات تستهدف المصالح الإسرائيلية، باعتبار أنّ لجوء إسرائيل، طوال الفترة السابقة، إلى الردع والتخويف وفرض الأثمان والتوعّد بها، جنباً إلى جنب تقديم الإغراءات والمكاسب المادية، بما في ذلك الأموال القطرية، للجم تلك العمليات، كان كفيلاً بضمان أمن الكيان. بمعنى آخر، لم تعمد إسرائيل إلى إجراء تقييم فعلي لما لدى المقاومة من قدرات، واكتفت باعتماد الأساليب المشار إليها، والتي أثبتت، في نهاية المطاف، أنّها بعيدة كل البعد عن تحقيق أهدافها. ولذا، فإنّ عملية السابع من أكتوبر قلبت المعادلة رأساً على عقب، وجعلت استراتيجية إسرائيل تتحوّل من العمل على الردع، إلى التركيز بالكامل على القدرات المادية والبشرية التي يمتلكها خصومها. ومن هنا، فإنّ محور تلك الاستراتيجية سيكون «العمليات الوقائية والاستباقية»، والتي تهدف إلى منع تشكل التهديد مادياً، وفي حال الفشل في ذلك، العمل على إزالته مادياً وعسكرياً وأمنياً.
والواقع أن العِبر التي استخلصتها إسرائيل من حرب غزة أصبحت تنسحب على كلّ الساحات التي تشكّل تهديداً لها، أو التي هي في طور تشكيل مثل ذلك التهديد، من مثل لبنان وسوريا، وصولاً إلى إيران نفسها. وبالعودة إلى الأخيرة، فإنّ إسرائيل، وانطلاقاً من الصدمات والإخفاقات الاستخبارية التي تعرّضت لها، أصبحت تريد مواجهة إيران في ما يتعلق بقدراتها وما يمكن حتى «أن تصل إليه من قدرات»، وعدم الاكتفاء بردعها والتوعّد بجعلها تدفع «أثماناً»، في حال تجاوزت «الخطوط الحمر» الإسرائيلية. من هنا، ستسعى إسرائيل إلى استئصال القدرة المادية التي تمتلكها إيران لتطوير سلاح نووي، بدلاً من الاكتفاء بـ«الردع»، الذي دفع بإسرائيل سابقاً إلى «احتواء التهديدات والتعايش معها»، ولا سيما في حال كانت مواجهتها تتطلّب اتخاذ خيارات «متطرّفة»، ودفع أثمان باهظة. يُضاف إلى ما تقدّم أنّ إسرائيل تأخذ في الاعتبار القرارات التي ستتأتّى عن تقديرات إيران، نفسها، حول التهديدات التي تواجهها. وترجّح تل أبيب أنّ تلك التقديرات خلُصت إلى أنّ خيارات طهران باتت «محدودة»، في أعقاب حربَي غزة ولبنان وسقوط النظام في سوريا، ومع قرب تولّي الإدارة الأميركية منصبها، ما يعني أن إنتاج قدرات نووية عسكرية «تكون رادعة لأيّ مقاربة متطرّفة ضدّ الجمهورية الإسلامية»، أصبح «الخيار الأول والأكثر ترجيحاً».
أبعد من «التحريض»
وعلى الجانب الإيراني، وبعدما تمسّكت الجمهورية الإسلامية، طوال الفترة الماضية، بوضعها كدولة «على العتبة النووية»، من خلال تقصير المدة الزمنية بين قدرتها على إنتاج السلاح النووي في حال أرادت، وبين الإنتاج نفسه، فإنّ ما يصدر عنها من مواقف وآراء وتقديرات، حول ضرورة التفكير بالانتقال من تلك المرحلة إلى وضع الدولة النووية الفعلية، يتجاوز كونه مجرد آراء متفرقة لشخصيات غير وازنة، ويحمل إشارات غير مسبوقة، بعدما كان ثمة إجماع في الداخل الإيراني على عدم إنتاج أيّ سلاح نووي. وعليه، لا يمكن صبغ التحذيرات الإسرائيلية المتزايدة في هذا الصدد، بصبغة «التحريض» فحسب، بل هي نابعة من الواقع الإيراني الجديد الذي بات أكثر قرباً إلى «التطرف النووي».
على أنّ إسرائيل تدرك جيداً أنّها غير قادرة، في جميع الحالات، على مواجهة إيران وحدها، ومنعها من التحوّل إلى دولة نووية، من دون دعم أميركي مباشر؛ ففي غياب الأخير، ستضطرّ إلى الاكتفاء بـ«تشخيص» التهديد، من دون أن تكون قادرة على درئه، علماً أن هذا الدعم، من منظور إسرائيلي، يجب أن يشمل التدخلات العسكرية والأمنية، بالنظر إلى أن التسويات والعقوبات لن تكون إلا «علاجاً قاصراً»، يؤجّل التهديد من دون أن يزيله. وانطلاقاً ممّا تقدم، أصبحت إسرائيل تراهن على وصول ترامب إلى البيت الأبيض لتفعيل «استراتيجيتها الجديدة»، بالاعتماد على «طرف ثالث»، يقدر على فعل ما هي عاجزة عنه.
وبالرغم من اعتقاد رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بأنّه قادر على إقناع ترامب بالتحرك عسكرياً ضدّ طهران، نظراً إلى أنّ الأخير هو أكثر من «يستمع إليه»، فإنّ مدى نجاح تلك الخطة يبدو غير معروف بعد، وهو مرتبط بما إذا كان الرئيس المنتخب سيقتنع بخطورة البرنامج النووي الإيراني، ويخوض، بالتالي، حرب إسرائيل بالإنابة عنها. ومن جملة الحسابات الأخرى التي ستحدّد قراره، هو مدى «سهولة» تحقيق هذه المهمة بالدرجة الأولى، وضمان ألّا تتسبب بأذيّة للمصالح الأميركية، أو تحرف تركيز واشنطن عن اهتماماتها الاستراتيجية الأكثر إلحاحاً، من خلال إقحامها في حرب جديدة مستنسخة في الشرق الأوسط.
المصدر: الأخبار اللبنانية