تركيا – “الحركة”: كواليس الإقناع!

لم يكن الجهد التركيّ لإقناع “حماس” بقبول الخطّة الأميركية لغزّة، أحادي الجانب، بل رافقه انفتاح غير معتاد من جانب “الحركة”، التي أبدت خلافاً لخطابها التقليديّ قدراً أكبر من الاستعداد للتجاوب بمرونة مع الطرح التركيّ. مَن طلب وساطة أنقرة؟ ومتى بدأت؟ ما هو تأثير هذا الجهد على الدور التركيّ في المنطقة؟
لم يكن التلاقي بين أنقرة و”الحركة” محض صدفة، بل جاء نتيجة إدراك مشترك للطرفين لأهميّة اللحظة الإقليمية الراهنة، وما تتيحه من فرص لإعادة صياغة التموضع الفلسطيني سياسيّاً وميدانيّاً، في ضوء تحوّلات عاصفة تشهدها المنطقة، لا سيما في المشهد الإسرائيلي.
دخلت أنقرة على خطّ الوساطة في النصف الثاني من شهر آب الماضي، بناءً على طلب فلسطينيّ مباشر، وبتشجيع من القاهرة والدوحة.
اللافت أنّ الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان كشف بنفسه أنّ تدخّله جاء أيضاً استجابة لطلب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي راهن على الدور التركيّ لإقناع “حماس” بقبول خطّة معدّلة تفتح الطريق لوقف الحرب ورفع الحصار وإطلاق إعادة إعمار غزّة، فكسب الرهان.
لم تقدّم أنقرة نفسها وسيطاً تقليديّاً، بل مُسهّل وضامن إلى جانب شركائها في الطاولة الرباعيّة القاهرة والدوحة وواشنطن. يبدو أنّ اللحظة التي هبطت فيها طائرة إردوغان في شرم الشيخ بعد تأكّد غياب بنيامين نتنياهو، لم تكن رمزيّة فقط، بل حملت دلالة على إعادة توزيع الأدوار، وتحوُّل تركيا إلى طرف فاعل في مشهد الترتيبات الإقليميّة الجديدة.
دخلت أنقرة على خطّ الوساطة في النصف الثاني من شهر آب الماضي، بناءً على طلب فلسطينيّ مباشر، وبتشجيع من القاهرة والدوحة
التّحرّك على أكثر من خطّ
تحرّكت تركيا على أكثر من جبهة قبل الانخراط في الحوار مع “حماس”. ناقشت المبادرة مع عواصم عربية تنسّق معها في هذا الملفّ، وفي مقدَّمها القاهرة، الدوحة، الرياض، أبو ظبي وعمّان. وحرصت على أخذ رأي الرئيس محمود عبّاس، في محاولة لتفادي الصدام مع السلطة الفلسطينيّة ولضمان غطاء أوسع للمسار الجديد.
لم يكن الحديث بين أنقرة و”حماس” محصوراً في بنود الخطّة الأميركيّة، بل تجاوز النصوص نحو نقاش استراتيجيّ أعمق: كيف يمكن تحويل الأزمة في غزّة إلى فرصة سياسيّة؟ ما الذي يمكن أن تحصل عليه “الحركة” مقابل إعادة تعريف مشروعها السياسي ومراجعة صياغة علاقتها بالسلطة الفلسطينية والتنازلات التي ستقدّمها على طريق التغيير في مواقفها التقليديّة؟
الدّبلوماسيّة النّاعمة والواقعيّة
استخدمت تركيا في حوارها مع “حماس” توليفة دقيقة من الأدوات جمعت بين الدبلوماسيّة الناعمة والواقعيّة السياسيّة، طارحةً رؤية تتخطّى مطلب وقف القتال نحو إعادة صياغة الدور الفلسطينيّ برمّته.
قدّمت في هذا السياق ضمانات إقليميّة لتمهيد الطريق نحو ترجمة جهودها السياسية إلى نتائج ملموسة، مع تركيز خاصّ على البُعد الاقتصادي والتنموي من خلال مشاريع إعادة الإعمار وفتح آفاق لبناء غزّة الجديدة.
تركيا
من بين الأوراق الأبرز، التي حرّكتها أنقرة خلال حوارها مع قيادات “حماس”، كان دور وسطاء فلسطينيّين وأجهزة استخبارات إقليميّة ساهموا في بلورة مسار تفاوضيّ متعدّد المستويات جرى تحت إشراف تركيّ مباشر، ومن خلال ضغط ناعم مصمَّم بعناية عبر شبكة علاقات إقليميّة مدروسة.
في المقابل، لم تكن “حماس” في موقع يتيح لها تجاهل الطرح التركي، بل بدت للمرّة الأولى أكثر ميلاً للتجاوب والموافقة بفعل الأزمة الداخلية الخانقة والانهيار الاقتصادي وضغط الحصار المستمرّ وتراجع الدعم التقليدي، وهو ما جعل “الحركة” طرفاً يبحث عن خيارات جديدة.
لم يكن النقاش محصوراً بين القبول والرفض هذه المرّة، بل انفتح على احتمال تحوُّل في نهج “الحركة” بدا أنّه يحظى بدعم شريحة من قيادتها السياسيّة المستعدّة للانخراط في مقاربة مختلفة لا تخلو من المجازفة.
تحرّكت تركيا على أكثر من جبهة قبل الانخراط في الحوار مع “حماس”
خروج من عنق الزّجاجة
رأت “حماس” في المظلّة التركيّة فرصة لتحقيق خروج مشرّف من عنق الزجاجة. لم يكن التجاوب مع أنقرة تكتيكاً لكسب الوقت، بل شكّل بداية انفتاح محسوب هدفه تفكيك الطوق السياسي والعسكري الذي بات يحاصر “الحركة” من كلّ اتّجاه.
لم يكن هذا المسار محصوراً بين أنقرة و”حماس” فقط، بل شاركت فيه أجهزة استخبارات إقليميّة ووسطاء فلسطينيّون في تركيا وخارجها ودوائر قرار في الدوحة والقاهرة وواشنطن. وعملت أنقرة على تنسيق موقفها مع عواصم عربيّة أخرى، مثل الرياض وأبو ظبي، في محاولة لضمان أوسع قبول إقليميّ ممكن.
ربطت المقاربة التركيّة بين الخطاب السياسيّ والبُعد الاقتصاديّ، وبين رفع الحصار وإعادة إعمار غزّة، ووضعت الانخراط في الخطّة الأميركيّة المعدّلة في سياق مسار أوسع لإحياء حلّ الدولتين، في إطار التحرّك السعوديّ الفرنسيّ.
باختصار، تمثّل موافقة “حماس” على هذا المسار خطوة مهمّة في توجّهاتها السياسية، وتُعدّ أيضاً إشارة واضحة إلى بداية مرحلة جديدة من البراغماتيّة قد تؤدّي إلى تغييرات تدريجيّة في القناعات والمواقف.
أمّا بالنسبة لتركيا فإنّ نجاحها في هذا المسار يمنحها ورقة قوّة إضافية في ملفّات تُفاوض فيها واشنطن وتل أبيب، ويُعزّز موقعها الإقليميّ كلاعب متوازن قادر على التفاوض والضمان والتأثير.
السؤال المطروح هو: هل تنجح تركيا في إدارة المرحلة الانتقاليّة؟ هل تقبل إسرائيل ببقاء “حماس” في المعادلة؟ وما شكل العلاقة الجديدة بين أنقرة وتل أبيب؟ ما مصير دور السلطة الفلسطينيّة في ظلّ هذا المسار الموازي، الذي قد يعيد رسم الخريطة السياسيّة الفلسطينيّة من جديد؟
لم يكن جلوس أنقرة إلى الطاولة الرباعيّة تطوّراً عابراً، بل نتاج تراكم طويل وعودة محسوبة إلى الملفّ الفلسطينيّ عبر بوّابة غزّة.
بينما تسعى “حماس” إلى الخروج من أزمتها المركّبة، وترنو تركيا إلى ترسيخ نفوذها كضامن إقليمي، تبدو خطّة غزّة الجديدة على الرغم من المخاطر المحيطة بها فرصة نادرة لكسر حالة الجمود.
ليست تركيا اليوم جزءاً من معادلة غزّة فقط، بل تسعى إلى أن تكون جزءاً من معادلة “ما بعد غزّة”
بداية تحوُّل أم مناورة؟
لكنّ السؤال الأهمّ يبقى: هل نحن أمام بداية تحوُّل فعليّ في نهج “حماس” السياسيّ أم مناورة مؤقّتة تحت ضغط الأزمة؟ هل تنجح أنقرة في تحويل هذا المسار إلى مكسب استراتيجيّ مستدام أم الحسابات الدوليّة والإقليمية ستعيد خلط الأوراق من جديد؟
لا يقف رهان أنقرة الحقيقيّ عند حدود إنجاح الوساطة مع “حماس”، بل يتجاوز ذلك إلى اختبار قدرتها على تثبيت حضورها كفاعل إقليميّ لا يمكن تجاوزه في ترتيبات ما بعد الحرب.
ليست تركيا اليوم جزءاً من معادلة غزّة فقط، بل تسعى إلى أن تكون جزءاً من معادلة “ما بعد غزّة”، حيث تُرسم خرائط جديدة وتُعاد صياغة مفاهيم كالشرعيّة والتمثيل والضمانات.
التحدّي الأعمق يبقى أن تعيد تقلّبات الإقليم وتشابك الحسابات الجميع إلى نقطة البداية .
سمير صالحة