من المعاملات اليومية باتت نقدية…

 من المعاملات اليومية باتت نقدية…

بيّن تقريرٌ إحصائي نُشر على موقع Visual Capitalist أن لبنان يحتل المرتبة السابعة عالميًا في استخدام النقد بنسبة 90% من المعاملات اليومية، في مشهدٍ يعكس انهيار النظام المصرفي وتحوّل النقد إلى العمود الفقري للاقتصاد. هذا الرقم لا يعبّر عن تخلّف مالي، بقدر ما يعكس انتقال القوة من المصارف إلى مجموعةٍ متنوعة من الجيوب الشرعية منها وغير الشرعية.

يصف محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية اللبنانية، الواقع المالي الحالي بأن نصف الناتج المحلي يتم خارج القنوات الشرعية، في اقتصاد موازٍ يوازي الاقتصاد النظامي حجمًا. هذه البنية الموازية لا تنشأ من العدم، بل من فراغ الثقة الذي تركه النظام المصرفي بعد 2019، حين اختفى دور البنوك كوسيطٍ موثوق وأمين على المدخرات. فأصبح النقد لغة التعامل الأساسية في التجارة والخدمات، فيما بات الدولار الورقي المرجع الوحيد للمصداقية.

التحويلات المالية المنظَّمة عبر شركات مثل Western Union وOMT وWish Money شكّلت بديلًا فعليًا للنظام المصرفي، وهي تخضع لرقابة مالية دولية صارمة وفق معايير FATF لمكافحة غسل الأموال (AML) والتعرّف على هوية العميل (KYC). احتساب هذه القنوات المرخّصة ضمن الدورة المالية يخفّض النسبة الفعلية لاستخدام النقد، لأنها معاملات قابلة للتتبّع ومصرَّح عنها.

في المقابل، يتكوّن المشهد النقدي اللبناني من ثلاث ركائز مترابطة: النقد الورقي الذي يحرّك الأسواق، والذهب الذي يحتفظ به الأفراد كملاذٍ للقيمة، والمحافظ الرقمية (crypto wallets) التي تستوعب سيولة رقمية يصعب حصرها. الذهب في لبنان يعكس خوفًا عالميًا من انهيار العملات الورقية، وليس فقط انهيار الليرة. وهو مخزون مشروع يُستخدم للحماية من التضخم وفقدان الثقة بالأنظمة المالية، لكنه يظل خارج الإحصاءات الرسمية، ما يصعّب تقدير حجم الكتلة النقدية الفعلية. بعض التداولات قد تستغل الذهب لإخفاء مصادر الأموال، إلا أن ذلك لا يُلغي طبيعته الشرعية كمخزن للقيمة في زمنٍ فقدت فيه العملات معناها.

أما المحافظ الرقمية فتمثل بُعدًا ثالثًا للسيولة غير الملموسة. جزء من الثروة اللبنانية انتقل إلى العملات المشفّرة، في محافظ غير خاضعة للرقابة المحلية. هذه الأصول الإلكترونية تُستخدم للتحويل عبر الحدود أو لتخزين الأموال بعيدًا عن الأنظمة المصرفية المتداعية. غياب التشريعات الواضحة للكريبتو يجعلها بيئة رمادية من حيث الشفافية والمساءلة، ويزيد قلق المؤسسات الدولية التي تراقب لبنان منذ إدراجه على اللائحة الأوروبية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

يصف تقرير FATF الأخير لبنان بأنه “جزئي الامتثال”، مع ملاحظات حادة على ضعف الإبلاغ المالي، وغياب التنسيق بين الجهات الرقابية، وتراجع التعاون مع المصارف المراسلة. إدراج لبنان على اللائحة الأوروبية يعني عمليًا أن النظام المصرفي اللبناني يُعامل كبيئة عالية المخاطر، ما يدفع المؤسسات الأجنبية إلى تقليص تعاملها معه، لكنه في المقابل يعزّز تمدّد الاقتصاد غير الشرعي.

أما الفارق بين لبنان ودول مثل كمبوديا ونيبال وباكستان، التي تتقدمه في اللائحة، فليس في حجم السيولة بل في طبيعتها. فهذه الدول تعتمد النقد لغياب البنية المصرفية، بينما يمتلك لبنان البنية التقنية لكنه يفتقد الثقة القانونية والمؤسساتية. التجربتان المصرية والأردنية (حيث انخفض استخدام الكاش إلى 80%) تُظهران أن الإصلاح المالي يبدأ من بناء منظومة دفع وطنية موحّدة ومؤطرة بتشريعات شفافة، لا من فرض التطبيقات أو الشعارات.

لبنان جاهز للتحوّل المالي الرقمي. فالكفاءات موجودة، والبنية التحتية التكنولوجية متاحة، والشعب متكيّف مع الأدوات الحديثة. ما ينقصه هو بنية مالية حديثة تُبنى على إصلاحات تشريعية ورقابية تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والقطاع المالي والدولة، وتحوّل الاقتصاد النقدي من فوضى غير شرعية إلى منظومة مالية قابلة للثقة الله