تكلفة الحرب.. أدوية أعصاب وحشيش وكحول
الهروب من الحرب ليس سهلاً، وكذلك تحمّل كلفتها. وإذا كانت الأكلاف على مستوى الاقتصاد تتراوح بين نحو 8.5 مليار دولار بحسب تقديرات البنك الدولي، وبين 10 إلى 12 مليار دولار بحسب تقديرات الهيئات الاقتصادية، يبقى للحرب فواتيرَ خاصة، هي أشبه بأكلافٍ من نوع آخر يلحظها بعض الهاربين من الموت والدمار وانعكاساتهما على الصعيدين النفسي والجسدي. فمع حاجة الأفراد والأُسَر النازحة للإنفاق على الأكل والشرب والأدوية، هناك مَن يُنفِق على أدوية الأعصاب والكحول والحشيش وأمور أخرى تساعد في مواجهة انعكاسات النزوح القسري.
الهروب نحو الأدوية
تزيد الأحوال الصعبة التي يعيشها النازحون من معدّلات الاكتئاب والضغط، ممّا يرفع مستويات الشعور بالعصبية والحدّة بالتعامل مع الآخرين. يضاف إلى ذلك، الانعكاسات المَرَضية لتفاقم تلك الحالات، ومنها ما يوصِل إلى التجلّطات وحالات توقُّف القلب، وتالياً الموت، وهو ما حصل مع العديد من النازحين، لاسيّما كبار السنّ، والذين كانوا يعانون من أمراض مزمنة.
هذا الحال ليس بعيداً من الفئة العمرية الشابة. فتداعيات النزوح وصعوبة تأمين المنازل أو الحياة اليومية اللائقة في المدارس ومراكز النزوح، دفعت العديد من الشبّان للبحث عمّا يخفِّف عنهم هذا الضغط. فبعضهم وَجَدَ في أدوية الأعصاب والمهدّئات ملاذاً، لكنه اصطدم بأسعارها وبالحاجة لتأمين وصفة طبية.
البحث عن تلك الأدوية يُسَجَّل بوضوح من خلال “ارتفاع الطلب في هذه الفترة”، وفق ما يؤكّده نقيب الصيادلة جو سلّوم الذي يشير في حديث لـ”المدن” إلى أنّ الارتفاع يقابله “انخفاض في معدَّل البيع. بسبب تشدُّد الصيادلة بطلب الوصفة الطبية قبل بيع أي دواء، وأيضاً بسبب شحّ الأدوية في السوق منذ بداية الأزمة الاقتصادية في العام 2019”. ويرى سلّوم أن التوجُّه نحو الأدوية “هو مؤشِّر خطر. فإلى جانب تداعياتها على الصحة، سيعتاد المرء عليها مع كثرة استعمالها، وحين لا يجدها، قد يتّجه نحو المخدّرات لتعويض غياب الأدوية”.
الترجمة الفعلية لارتفاع معدّل الطلب، تظهر من خلال ملاحظة الحركة اليومية في الصيدليات. فيشير أحد الصيادلة لـ”المدن”، إلى أنه “مع النزوح الكثيف منذ شهرين، واستقرار النازحين في البيوت والمدارس، بدأنا نرى وجوهاً جديدة في المنطقة تدخل إلى الصيدلية وتسأل عن أدوية الأعصاب، فنطلب منهم وصفة طبية، ليكون الجواب هو عدم وجود وصفة. ومن خلال النقاش، يبرِّر السائل طلبه بأنه يشعر بحالة توتّر دائم، فنجيبه بأن القانون أولاً يمنع صرف هذه الأدوية بدون وصفة طبية، وثانياً، نبيِّن له مخاطر هذه الأدوية، وبأن العلاج الأنسب لحالة التوتّر الطبيعية نتيجة الأزمة، ليس بهذا النوع من الأدوية”. ويلفت الصيدلي النظر إلى أن “بعض الشبّان يدخلون إلى الصيدلية ولا يسألون عن اسم دواء محدَّد، بل عن أي شيء مهدّىء. وهذه الحالات كانت موجودة قبل الحرب لكنها زادت خلالها”.
يحاول الزبائن إقناع الصيدلي بإعطاء الدواء بلا وصفة، متجاهلين الانعكاسات السلبية للدواء “وهذا أمر مفهوم في ظل ما يعيشه النازحون”، لكن المحاولات تنتهي بالفشل “لأن مسألة الوصفة الطبية محسومة، بالإضافة إلى أن بعض الأدوية ليست متوفّرة، مثل دواء Xanax الذي يتم استبداله بدواء Pazolam الذي يصل سعره إلى 560 ألف ليرة”.
استهلاك الكحول والحشيش
كلفة أخرى لهذه الحرب تُسَجَّل من خلال زيادة استهلاك الكحول وحشيشة الكَيف. ويُلمَس ذلك عبر “ارتفاع معدّل البيع بين 25 و30 بالمئة مقارنة عمّا كانت عليه قبل الحرب”، على ما يُجمِع عليه أغلب أصحاب محال بيع الكحول بالتجزئة، الذين التقتهم “المدن”.
وعلى غرار الصيادلة، يلاحظ أصحاب محال بيع الكحول “توافد زبائن جدد، غالبيّتهم يبدو عليهم أنهم معتادون على شرب الكحول، ويظهر ذلك عبر هدوئهم وتوجّههم مباشرة إلى البرّادات وانتقاء ما يريدونه، فضلاً عن شراء المكسّرات وما شابه، إلى جانب الكحول. ومع ذلك، هناك عدد قليل جداً ممّن يبدو عليهم أنهم يشترون الكحول للمرة الأولى، فهُم يرتبكون عند دخول المحل، ويطلبون البيرة مثلاً، بدون تحديد أي نوع، ويشترون عبوة واحدة أو اثنتين، ويسألون عن تأثير استهلاك أكثر من عبوتين معاً… وغير ذلك”.
وفي السياق، يلاحظ أصحاب هذه المحال زيادة نسبة بيع “أوراق اللّف” المستعملة لما يسمّى بالتبغ العربي، وكذلك يستعملها مدخّنو الحشيشة. ويشير أصحاب المحال إلى أن “زيادة نسبة المبيع ارتفعت مع تصاعد وتيرة القصف وخرق الطائرات لجدران الصوت باستمرار، حتى فوق المناطق الواقعة شمال نهر الأوّلي”، أي من منطقة الرميلة الواقعة شمال مدينة صيدا.
وعن تدخين الحشيشة، يوضح أحد الشبّان المدخّنين في حديث لـ”المدن”، أن “القلق الدائم والبقاء بلا عمل وانتظار الأخبار الآتية من الجنوب واحتمالات استمرار الحرب لسنة إضافية أو أكثر… كلّها عوامل تساعد في زيادة التدخين”. ويوضح أن “تدخين الحشيشة يساعد في تهدئة الأعصاب وإن لفترة وجيزة. لكن المشكلة تكمن في عامل الوقت، فاستمرار الحرب يعني استمرار التدخين، وهذا مضرّ على المستوى الصحي والمادي”.
وفي الشقّ المادي، يشير الشاب إلى أن “كمية الحشيشة التي كانت تكفي لنحو شهر قبل الحرب، باتت الآن تُستَهلَك بنحو 10 أيام. وهذه الكمية نشتريها بنحو 20 دولاراً. واستهلاك المزيد يعني الحاجة للمال، ما يعني الركون إلى أحد الخيارين، إما انتظار المساعدة من الأصدقاء لتوفير الحشيشة، أو الاضطرار إلى التضحية بجودة الحشيشة مقابل الحصول على كميات أكبر بالمبلغ المالي المتوفِّر”. أما في حال عدم وجود المال “فتصبح حالة التوتّر أعلى”.
التبغ أفضل الخيارات
بين الأدوية والكحول والحشيشة، يجد عباس أن “تدخين التبغ أفضل الخيارات”. لكن نسبة التدخين “ارتفعت بنحو ثلث ما كانت عليه قبل الحرب”. علماً أن الحرب بالنسبة إلى عباس، لم تبدأ في أيلول الماضي، بل منذ عام، مع نزوحه من قرية عيترون الحدودية. وأن زيادة نسبة التدخين كانت نتيجة “أوقات الفراغ الطويلة والبقاء عاطلاً عن العمل لفترة”. ويشير عباس إلى أن الضغط المتواصل يزيد التدخين “ولو كان هناك مزيداً من الوقت، لدخّنت المزيد من التبغ”.
الاكتفاء بالتدخين لم يكن خياراً سهلاً، فالبدائل الأخرى متوفّرة، لكن “الاقتراب من الممنوعات كان قراراً متّخَذاً من زمن، وهو قرار قطعي في حياتي، لا رجوع عنه”. وتبقى الكحول إلى جانب التبغ خياراً متاحاً، سيّما أنه “شرب الكحول يتمّ باعتدال”.
ويكشف عباس أنه لجأ إلى “عادات لم تكن موجودة سابقاً. وهي لعب القِمار”. فمع الصعوبات التي واجهها على مدى اكثر من عام “كان الخيار بتجربة القمار من باب التسلية. فشاركت في برامج متاحة مجاناً ويمكن الكسب منها مادياً بحدود معيّنة”. ومع ذلك، بقي الأمر صعباً. “فالذهاب إلى أحد فروع شركات تحويل الأموال لقبض المبلغ الذي ربحته، كان يشكِّل إحراجاً ضمنياً لي. وفي كلّ مرة كنت أذهب فيها لقبض ما ربحته، كنت أبرِّر لصاحب المحل بأنني أتسلّى مجاناً ولا أضع مالاً مقابل أي رهان. وفي النتيجة، وجدت أنّني أبرّر الأمر لنفسي قبل أي أحد آخر، لأنّني لم أكن معتاداً على اللعب. واستمرّ الأمر فترة إلى أن توقّفت عن اللعب لأن كثرة اللعب باتت تؤدّي إلى التوتّر لأنها تنطوي على خسارة أيضاً”.
يجد عباس أن ما حصل معه “أمر خطير جداً. ومع ذلك، تمكّنت من تجاوزه، لكن المشكلة تبقى في أن الكثير من الشبّان اعتادو القمار، ومَن لا يملك الوعي الكافي، سيغرق بالمراهنات وأمور أخرى”.
تجارب كثيرة لا تتّسع لها الصفحات، وكل تجربة تزيد الموضوع تشعّباً. لكن كل الحالات تجتمع تحت سقف واحد، وهو زيادة منسوب القلق الذي يؤدّي إلى زيادة الحاجة للمهدئات على أنواعها، ويترافق ذلك مع الحاجة للمال. وكلّما كانت ظروف حياة الأفراد مليئة بالضغوط، بات الخروج من الدوامة أصعب، وهذا الأمر ينطبق على النازحين الذين يعيشون في المدارس ومراكز النزوح، حيث الاكتظاظ الذي يؤدّي إلى الضجيج الدائم واحتمالات وقوع إشكالات بين النازحين، ما يحتِّم على المرء البحث عن وسيلة للهروب.
خضر حسان
المدن