الأوركسترا الفلهارمونية في أمسية العبقرية والتعبيرمع المايسترو العالمي كريم سعيد وعازف الكلارينيت إبراهيم الشيخ

أحيت الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية، بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى المؤلفة الموسيقية هبة القواس، في الكنيسة الأرمنية الإنجيلية الأولى في بيروت، أمسية استثنائية بقيادة القائد الرئيسي والمقيم لدى الأوركسترا، عازف البيانو الأردني البريطاني الذي يحمل الجنسية اللبنانية المايسترو كريم سعيد، ومشاركة عازف الكلارينيت الفلسطيني إبراهيم الشيخ. ليلة تُوّجت فيها بيروت منارة للفن الرفيع، في تجسيد حيّ لعمق العلاقة بين الموسيقى والروح الإنسانية، دأبت الأوركسترا على تقديمها في سلسلة حفلاتها الراقية التي تعكس صورة لبنان الثقافية والحضارية.
افتتاحا، تحدثت القواس في كلمة توجهت بها إلى الحضور قائلة:الليلة الأوركسترا والقائد والعازف المنفرد مميزون، وخاصة انهم سيعزفون من ريبيرتوار خاص جداً. المايسترو كريم لا يقود فقط الأوركسترا، إنما هو القائد الرئيسي للأوركسترا الوطنية للشباب – لبنان، وهو يقود الفلهارمونية في عدة حفلات لهذا العام في ريبيرتوار خاص سنتحدث عنه في مؤتمر صحافي قريباً، وهو حفل خاص لببيتهوفن سيكون تاريخياً ليس فقط في لبنان إنما على المستوى العالمي".
وأشارت إلى "أننا بدأنا منذ أشهر عدة بتأسيس الأوركسترا الوطنية للشباب – لبنان، وهي توقيع خاص بلبنان، تسلمتها لاحقاً قائدة أوركسترا روسية بعدما دربها المايسترو سعيد. هذه الأوركسترا الفتية لعبت تحت قيادة المايسترو الروسي العالمي يروي باشمت في افتتاح أهم مهرجان لأوركسترات الشباب في موسكو.
أتحدث عن كريم سعيد اللبناني البريطاني الذي عاد منذ سنة إلى لبنان، بدأ فيها رحلته الموسيقية معنا وهو يعطي الكثير من قلبه ومن قدراته لهذا البلد، كما يعطي أيضا "ماستر كلاس" لطلاب الكونسرفتوار، واختار بعض الطلاب لتدريبهم وإيصالهم إلى مستوى عالمي بالبيانو. فأنا أحيي ليس فقط موسيقاه بل أحيي عطاءه للبنان. لأننا كموسيقيين نستطيع أن نبدع، ولكن لا نستطيع دائماً أن نعطي. لذلك أحييه مرتين: الأولى للإبداع والثانية للعطاء".
وأضافت: "الريبيرتوار الليلة غني باختياراته، وغني بالحضور اللبناني من خلال المؤلف إياد كنعان، وكما بدأنا منذ فترة، فسيكون لنا حضور لمؤلف لبناني في كل حفل. وأستطيع القول إن كنعان يتميز بحساسية عالية في الكتابة وهذا الجانب يهمه جداً، فهو لا يبحث عن التعقيدات الموسيقية خلف أي مؤلَّف، ولكن يهمه حقيقة القلب أين تكون لحظة الكتابة، وهذا هو إمضاؤه. والمفاجأة اليوم هي عبر صولويست يشق طريقه في أوروبا هو إبراهيم الشيخ من فلسطين. وأن يخرج من فلسطين ليشق طريقاً إلى العالمية ليس أمراً سهلاً أبداً لكن الموسيقى تمد جسوراً، وهذا ما فعله أن مدّ جسوراً من فلسطين إلى العالم وهو اليوم في بيروت ليسمعنا تحفة للكلارينيت وهي كونشيرتو كلارينت لموزارت."
تميزت الأمسية بتوليفة جريئة تضمنت روائع الماضي والحاضر، معتمدة خطاً بيانياً موسيقياً جامعاً بين النكهة اللبنانية المعاصرة لـلمؤلف إياد كنعان، والصفاء الكلاسيكي لـ موزارت، والتعقيد الرومانسي لـ برامز، مما وضع الأوركسترا أمام تحدي التعبير عن ثلاثة عوالم موسيقية متباينة.
قاد الأوركسترا القائد المرموق كريم سعيد، خريج جامعة رويال أكاديمي للموسيقى في لندن، ومؤسس أوركسترا حجرة عمان ومعهد عمان للفنون الأدائية، والذي يشغل مؤخراً منصب القائد الرئيسي والفنان المقيم للأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية. وسعيد هو صاحب مسيرة فنية متعددة الأوجه، فهو عازف بيانو ومؤلف ومنظّر موسيقي، اكتشف قدرته على "التواصل بالفطرة" مع الموسيقى والجمهور في سن الخامسة، وهي صفة أكدتها صحيفة "الجارديان" بوصفها "تراثاً فنياً يتجاوز الأزمنة". وقد تجلت قوته وصفاته السابقة الذكر في قدرته على ربط أقسام برنامج الحفل ببعضها البعض، مبتدئاً بالحيوية اللبنانية، مروراً بصفاء موزارت، وصولاً إلى ثقل برامز. مرتكزاً على أسلوبه القيادي في إبراز الروابط بين أعمال الغرب الكلاسيكيين والتأليف المعاصر، وهو ما منح الأوركسترا فهماً أعمق للسياقات التاريخية والنفسية لكل قطعة.
تطلبت قيادة الأمسية قدرة عالية على التكيف، فمن الوثب الإيقاعي في مقطوعات كنعان، إلى الشفافية المطلقة في كونشيرتو موزارت، وصولاً إلى الهيكل العظيم والمعقد لسمفونية برامز، والتي أجاد في تقديمها وصولاً إلى ذروة الأداء القيادي الهائل. والمايسترو سعيد، بصفته موسيقياً أدى عروضه أمام قامات مثل السير كولين ديفيز ودانيال بارنبويم، نجح في صياغة كل عمل بـ شخصية صوتية (Sonority) مميزة ومقنعة.
بدأ الحفل مع المؤلف اللبناني إياد كنعان، مقدماً عملين أظهرا مرونة ومهارة الأوركسترا في التعامل مع موسيقى الوطن المعاصرة:
"أمل" (Hope): استعرضت الأوركسترا في هذا العمل، ذي البنية الثلاثية، قدرتها على بناء التوتر الدرامي. فبدأت الأوتار بتقديم التيمة اللحنية البسيطة بـ حساسية مرهفة، ثم قادت الآلات النحاسية والخشبية العمل إلى انفجار عاطفي وحماسي في القسم الأخير. لقد نجح المايسترو في توجيه الأوركسترا لتعكس حالة الأمل واليقظة.
"الرقصة اللبنانية رقم 5": في هذا النموذج الممتع الذي يستلهم رقصات برامز الهنغارية، ظهرت النغمات الإيقاعية والحيوية في أبهى صورها. قدمت الأوركسترا هذه المقطوعة بـ خفة ورشاقة عالية، مؤكدة على إتقانها للأجواء الموسيقية اللبنانية، وكانت بمثابة "استراحة موسيقية" منعشة قبل الغوص في أعماق الكلاسيكيات.
بعد الأداء الحيوي لمقطوعات كنعان، خفتت الأضواء لاستقبال العازف المنفرد إبراهيم الشيخ في كونشيرتو الكلارينيت لموزارت (K. 622).هذا الشاب الموهوب، الذي درس في مدرسة وأكاديمية بارنبويم- سعيد في رام الله، وشارك في برنامج "الموهوبين للغاية" في النمسا، يمثل جيلاً موسيقياً صاعداً يستمد قوته من التعليم الأكاديمي الصارم والتوجيه العالمي (مثل دانيال بارنبويم وإيمانويل باهو).
الحركة الأولى (Allegro): تميز أداء الشيخ لكونشيرتو موزارت بـ الشفافية المطلقة والدفء النغمي. أظهر العازف براعة تقنية في الانتقال السلس بين السجلات العليا والعميقة للكلارينيت، محافظاً على الطابع الهادئ للعمل.
الحركة الثانية (Adagio): كانت هذه الحركة هي الأجمل والأكثر تأثيراً. قدم الشيخ لحناً غنائياً نقياً، نقل فيه الصفاء والهدوء، مجسداً "الموسيقى ذات البساطة المطلقة" التي تعكس "عقلاً متصالحاً مع ذاته". هنا، أظهر المايسترو سعيد سيطرة مثالية على الأوركسترا لدعم الصولو دون طغيان، مما سمح للكلارينيت بالتألق كصوت منفرد خالص.
توجت الأمسية بإحدى أعظم السمفونيات الرومانسية، سمفونية يوهانس برامز الأولى في سلم دو الصغير، مصنف 68. هذا العمل، الذي تأخر لسنوات بسبب رغبة برامز في التحدي الفني لبيتهوفن، يتطلب من الأوركسترا أقصى درجات القوة والانسجام والعمق التعبيري.
الحركة الأولى (Un poco sostenuto – Allegro): نجح المايسترو سعيد في بناء التعقيد الهيكلي للحركة. وبدأت الأوركسترا بمقدمة بطيئة مليئة بالتوتر الدرامي، قبل أن تنفجر في الأليغرو القوي. قدمت الأوتار في هذا الجزء كثافة صوتية هائلة، بينما كانت الآلات النحاسية والنقريات حاسمة في تأكيد الهيكل.
الحركة الختامية (Finale) – قمة التحول: كانت هذه الحركة هي الاختبار الحقيقي لقيادة سعيد وإتقان الأوركسترا. بدأ المايسترو بإدارة قسم مقدمة الحركة الذي يخلق إلحاحاً متزامناً عبر الأوتار المنخفضة. ثم قاد الأوركسترا إلى لحظة التحول الدرامية الكبرى: ظهور(Horn Solo) المهيب، وهو لحن يرمز للأمل ("عالياً في الجبل، عميقاً في الوادي")، معلناً الانتقال من دو الصغير إلى دو الكبير المشرق.
في النهاية، اندفعت الأوركسترا بتقديم "اللحن العظيم" لبرامز (الشبيه بلحن بيتهوفن)، حيث بلغت القوة الذروة، ليختتم القائد الحفل بـ انتصار صوتي هائل أكد على النضج الفني للأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية.
في ختام الحفل كان التصفيق الحار من جمهور الأمسية الاستثنائية، شهادة على دور المعهد الوطني العالي للموسيقى في تعزيز المشهد الموسيقي اللبناني. فأثبتت الأمسية أن الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية، بقيادة ومشاركة موسيقيين عابرين للحدود مثل كريم سعيد وإبراهيم الشيخ، تواصل تقديم مستوى عالمي من الأداء، وتؤكد أن الموسيقى الكلاسيكية هي ركيزة لا غنى عنها للحياة الثقافية والروحية في المنطقة.