سخونة فتسوية فرئاسة
جوني منيّر
بات واضحاً انّ ملف الانتخابات الرئاسية بات مفتوحاً على الطاولة على حساب ملف تشكيل حكومة جديدة، والذي أُغلق ووضع على الرف. الواضح أنّ الحماوة المتدرجة ستواكب هذا الاستحقاق الذي سيحصل في ظروف مختلفة تماماً عن تلك التي سبقته. فالمعايير التي اعتُمدت وأدّت الى دخول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا أُجضهت بعد الانهيارات المتلاحقة والأزمات السياسية المتعددة التي انتهت اليها ولايته. والتوازنات الداخلية لم تعد كما كانت سابقاً مع بداية العهد، إثر الانفجار الشعبي في 17 تشرين والانفجار المروع في مرفأ بيروت.
صحيح انّ نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة لم تؤدِ إلى انقلابات حاسمة في توازنات المجلس النيابي لأسباب عدة أبرزها قانون الانتخابات الذي رُسم على حجم القوى والاحزاب السياسية، الّا انّ التشريح العلمي للاقتراع الشعبي اظهر تبدلاً واسعاً في مزاج الناس. ايضاً، فإنّ الظروف الاقليمية والدولية تبدّلت تماماً، فالشرق الاوسط يعيش اختلاجات ولادة خارطة نفوذ سياسي جديدة، وإعادة ترتيب الاوراق، مع دور اوروبي جديد، من خلال فرنسا، مهتم بالشاطئ الشرقي للبحر المتوسط حيث الساحل اللبناني. والاستحقاق الرئاسي يلامس هذه النقاط الثلاث، ما يدفع للاستنتاج بأنّ ظروف ولادة رئيس جديد للجمهورية اللبنانية لن تكون سهلة من جهة ولن تكون مشابهة لما سبقها من محطات.
لذلك يفتح الفرقاء اللبنانيون ملف الاستحقاق الرئاسي بكثير من الحذر، وهو ما يفسّر عدم اعلان أي طامح للوصول إلى قصر بعبدا، وبالمناسبة هم كثر، عن رغبته العلنية والصريحة، وهذا ما استدعى السفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو للتعبير بشيء من التعجب عن عدم حصول ذلك، رغم انّ فترة اسابيع معدودة باتت تفصل عن سريان المهلة الدستورية.
لقد انتظرت الأطراف السياسية في لبنان انتهاء زيارة الرئيس الاميركي جو بايدن إلى المنطقة ومن بعدها القمة الثلاثية في طهران، ورغم ذلك بقيت حال الحذر هي السائدة، بعدما لم تنتج مواقف حاسمة عن قمتي السعودية وايران.
لذلك يصح توصيف الحركة السياسية للأطراف والقوى السياسية حيال الاستحقاق الرئاسي بجس النبض ورصد ردود الفعل.
لكن هذه الحماوة سترتفع تدريجياً وصولاً إلى مطلع ايلول المقبل، حين سيدعو رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى جلسة لانتخاب الرئيس عملاً بالاصول الدستورية.
الذين التقوا سليمان فرنجية غداة عودته من رحلته الخارجية نقلوا عنه ارتياحه الحذر. صحيح انّه كان في رحلة إجازة بعد «دوشة» الانتخابات النيابية، لكن المنطق يقول انّه لا بدّ ان يكون أجرى اتصالات خارجية لتأمين ظروف ترشيحه. لكن «الطلقة» جاءت من حليف الحليف، والمقصود هنا رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل. ففي مقابلته مع الزميل عماد مرمل عبر شاشة «المنار» ارسل باسيل رسائل سلبية حول احتمال دعمه لترشيح فرنجية. لا بل اكثر، فهو وضعه على المسافة نفسها مع «القوات اللبنانية»، حين اقترح التفاهم معه او مع «القوات» على اسم مرشح مشترك.
وكان من المفهوم عدم صدور ردود فعل على اقتراحه. فالسنوات الست الماضية غنية بالأحداث التي تفسّر مفهوم الشراكة لدى باسيل. أضف إلى ذلك، انّ فرنجية لا ينوي «تجيير» فرصته لأحد، و«القوات» بدورها لديها اوراقها الاخرى.
فرنجية ينتظر دوراً ما من «حزب الله» تجاه باسيل. وهو في الوقت عينه قد يكون يضع في حساباته انّ باسيل الذي لا يملك ترف الخيارات، قد يكون يريد رفع السقف ألى أعلى درجة ممكنة لكي يستحصل في النتيجة على افضل شروط في التسوية الرئاسية. لكن البعض يستذكر المفاوضات التي اجرتها «القوات» كما الرئيس سعد الحريري مع فرنجية منذ حوالى 6 سنوات، والتي اظهرت انّ فرنجية لا يقبل بأن يكون «صورة» رئيس من دون أي محتوى فعلي.
و«القوات اللبنانية» لديها في الوقت نفسه خياراتها الرئاسية البديلة. ويدور في الكواليس الديبلوماسية انّ ورقة جعجع «المستورة» هي بطرح ترشيح الوزير السابق كميل ابو سليمان.
لكن قبل ذلك، لا بدّ من اكتشاف المناخين الاقليمي والدولي. فالرئيس العتيد يجب ان يحظى بمواصفات تسمح له بالاستحواذ على ثقة المجتمع الدولي ومؤسساته المالية والاقتصادية، وكذلك على عدم اعتراض الدول الخليجية، والتي ستتولّى تقديم المساعدات الاقتصادية والمالية إلى لبنان، لكي يستطيع الانطلاق في مسيرة اعادة بناء مؤسساته المدمّرة واقتصاده المنهار.
وحتى الآن لم تصدر أي اشارات خارجية وخليجية واضحة. فـ»القوات اللبنانية» التي تتواصل مع وليد جنبلاط وتعمل على تنشيط اتصالاتها بالنواب المستقلين، قد تكون تراقب «المؤشر» السنّي في لبنان. ذلك انّ أي حركة سعودية باتجاه النواب السنّة لم تحصل بعد للبناء عليها. وهذا ما يدفع جعجع وجنبلاط للبقاء في الخانة الرمادية، لكن ذلك لن يستمر طويلًا، فلا بدّ من حسم الخيارات قبل نهاية شهر آب. يبقى موقف «حزب الله»، فمن الواضح انّه يقف خلف ترشيح فرنجية. ومن هنا السؤال حول كيفية التوفيق بين حليفيه فرنجية وباسيل، مع الإشارة إلى انّه فشل مرات عديدة في السابق في التقريب في وجهات النظر بين حلفائه عند الاستحقاقات الأساسية. وابرز مثال على ذلك العلاقة بين «التيار الوطني الحر» والرئيس نبيه بري في محطات عدة، منها الانتخابات الرئاسية الاخيرة، والتي بقي فيها بري على معارضته لوصول عون إلى قصر بعبدا.
رغم ذلك هناك من يقرأ خلاف ذلك، ويقول انّ هنالك نوعين من ضغوط «حزب الله»، النوع الاول ضغط من دون دسم، والثاني ضغط كامل الدسم.
ويعلّل هؤلاء قراءتهم بأنّ «حزب الله» لاعب اقليمي بثوب لبناني، وبالتالي من الطبيعي ان يقرأ الاستحقاق الرئاسي من المنظار العريض وسط التطورات الاقليمية الحافلة وليس من الزاوية اللبنانية الضيّقة على قياس مختار زاروب.
وبمعنى أوضح، طالما انّ العواصم الكبرى تسعى لأن يكون وصول الرئيس المقبل بداية مرحلة جديدة في لبنان على الصعد كافة، فلا بدّ ان تسبقها تسوية سياسية عريضة تضع ركائز واضحة لمرحلة يتزاوج فيها الانقاذ الاقتصادي مع الرؤيا السياسية والضمانات الأمنية.
وهذه التسوية السياسية والتي جرى التلميح اليها سابقاً، لم تظهر بوادرها بعد او لم تظهر أي مؤشرات قريبة لها، رغم انّ قناة التواصل الفرنسي مع «حزب الله» لا تزال مفتوحة وهي تعمل بانتظام. وهو ما يدفع للاستنتاج بأنّ أوانها لم يحن بعد. وبالتالي فإنّ دعوة الرئيس نبيه بري لتحديد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية في ايلول لن تعني بالضرورة انّ الانتخابات ستحصل. فـ»حزب الله» لن يغامر بتأمين نصاب الثلثين في حال عدم ضمان النتيجة سلفاً لصالح فرنجية، وهو ما زاده تعقيداً الموقف الأخير لباسيل. وبالتالي، فإنّ احتمالات انقضاء المهلة الدستورية من دون انتخاب رئيس جديد، سيدفع بالبلد إلى فراغ رئاسي جديد وسط ظروف اصعب وارتفاع مخاطر الفوضى. وفي العادة فإنّ التسويات السياسية في لبنان تأتي على وقع أحداث واضطرابات ساخنة لا وسط اجواء باردة وهادئة وطبيعية. هذه هي دروس التاريخ.
ومن هذه الزاوية يمكن تفسير حادثة المطران الحاج والتوظيف الذي يواكبها. فالمعروف عن المشاكل الدينية بأنّها سريعة الاشتعال.
وهو ما يعطي المؤشر الواضح بأنّ الاسابيع والاشهر المقبلة ستكون غاية في الصعوبة.